Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

رايات حمراء في شوارع خضراء

على مقربة من شرفات طفولتي، اعتاد الناس أن يعلقوا الأعلام الملونة كلما أرادوا الإعلان عن الاحتفال بمناسبة، أو الإعلان عن فرحة ، واعتدت كلما فعلوا أن أرى بين الأعلام راية حرت في فهم سر وجودها بين الرايات، كان رجال الزينات في مصر يضعون علم مصر الملكية الأخضر وفي قلبه هلال أبيض تتوسطه ثلاثة نجوم بيضاء، والى جواره علم مصر الجمهورية بألوانه الثلاثة الأسود والأبيض والأحمر ونجمتيه الخضراوين، وبينهما علم أحمر يتوسطه هلال أبيض في قلبه نجمة بيضاء،عرفت فيما بعد أنه كان علم مصر (السلطانية) الذي يجسد ما تبقى لنا من أربعمائة عام من الحكم التركي لمصر، هكذا اعتدنا ان نرى العلم التركي وسط راياتنا الوطنية، أما ت

A A
على مقربة من شرفات طفولتي، اعتاد الناس أن يعلقوا الأعلام الملونة كلما أرادوا الإعلان عن الاحتفال بمناسبة، أو الإعلان عن فرحة ، واعتدت كلما فعلوا أن أرى بين الأعلام راية حرت في فهم سر وجودها بين الرايات، كان رجال الزينات في مصر يضعون علم مصر الملكية الأخضر وفي قلبه هلال أبيض تتوسطه ثلاثة نجوم بيضاء، والى جواره علم مصر الجمهورية بألوانه الثلاثة الأسود والأبيض والأحمر ونجمتيه الخضراوين، وبينهما علم أحمر يتوسطه هلال أبيض في قلبه نجمة بيضاء،عرفت فيما بعد أنه كان علم مصر (السلطانية) الذي يجسد ما تبقى لنا من أربعمائة عام من الحكم التركي لمصر، هكذا اعتدنا ان نرى العلم التركي وسط راياتنا الوطنية، أما تركيا ذاتها فقد كانت غائبة عن عالمنا، طوال سنوات ما بعد استقلالنا عنها، ثم عن الاحتلال الأوروبي، أوغلت تركيا طوال تلك السنوات في علاقات مع الغرب جسدها حضورها القوي ضمن دول حلف شمال الأطلسي وأوغلنا نحن في عدائنا لهذا الحلف بكل ما فيه وما يعنيه.سنوات طويلة من العلاقات العربية- التركية الملتبسة، هم في أنقرة يريدون أن يثبتوا للغرب أنهم تخلصوا من ماض إمبراطوري عثماني، كان يثير مخاوف الغرب الذي انقض على ولايات الخلافة العثمانية كما تنقض الضباع على فريسة عافتها نفس الأسد المريض، ونحن في العالم العربي كنا نريد الاستمتاع بمشاعر أننا قد بلغنا سن الرشد ولم نعد بحاجة إلى وصاية أو إلى وصي أساء معاملة «القصر» على مدى قرون طويلة ( أربعمائة عام من الحكم التركي(من 1516 وحتى 1916 م) .طالت سنوات قطيعة عربية تركية، ظنها بعض العرب دليلا على الاستقلال، وتعاملت معها النخبة السياسية التركية باعتبارها دليلا على براءة ذمة تركيا أمام الغرب، لكن الرايات التركية الحمراء استمرت هناك وسط رايات الزينة في احتفالات مشايخ الطرق الصوفية وفي الموالد ببعض المدن،وفي أعراس الفلاحين الذين لم يسألوا أنفسهم ولو مرة واحدة عما يعنيه وجود هذه الرايات الحمراء في مناسباتهم السعيدة.على مدى الشهور الماضية، عادت الرايات التركية الحمراء لكن حضورها بدا شبه مفهوم، ودلالاته بدت شبه معروفة،فمع حكومة حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب اردوغان، ثمة رغبة تركية في إعادة اكتشاف العمق العربي- الإسلامي لتركيا، وثمة استعداد عربي للاحتفاء بتلك الرغبة، ولكن لماذا الآن؟!السؤال عن مغزى التوقيت قد يعكس شكوكا لدى العرب وحتى لدى بعض الاتراك فيما اذا كان العود التركي أحمد، أو كان عنوانا لمأزق يهرب منه فريق الى الماضي وفريق آخر الى الأمام، لكن الفريقين يهربان على أي حال.على مدى سنوات الفتور العربي –التركي منذ مطلع الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، كان ثمة نظام اقليمي عربي يبدو وكأنه متماسك رغم كل شيء، وكان ثمة وعي بالفكرة القومية في الشارع العربي، غير أنه قرب نهاية السبعينيات، شهدت المنطقة العربية ومعها إقليم الشرق الأوسط كله جملة وقائع تاريخية فاصلة، بدأت بزيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس في التاسع عشر من نوفمبر عام 1977،وأعقبها توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978، ثم الغزو السوفيتي لأفغانستان،في العام نفسه، ثم ثورة الخوميني في ايران في فبراير عام 1979، ثم توقيع معاهدة السلام المصرية- الاسرائيلية في مارس من العام نفسه (بعد شهر واحد من سقوط النظام الشاهنشاهي في ايران) ثم الحرب العراقية – الايرانية على مدى ثماني سنوات (من سبتمبر 1980 وحتى خريف عام 1988)، ثم الغزو العراقي للكويت في أغسطس عام 1990 بكل توابعه التي انتهت في مارس من العام 2003 بغزو العراق وسقوط بغداد في ابريل من العام ذاته. في المسافة الزمنية بين كامب ديفيد وحتى سقوط بغداد، بدا أن اركان النظام الإقليمي العربي قد تداعت أو تضعضعت بين انكفاء مصري على الداخل، قاد الى قطيعة مع العالم العربي دامت نحو تسع سنوات، وبين سقوط بغداد متبوعا بتصاعد نفوذ طهران، فيما كانت تركيا تعيد ترتيب البيت من الداخل والأولويات مع الخارج.طوال سنوات الانكفاء العربي، كانت تركيا تفتش عن مكان لها في اوروبا التي ابت إلا أن تظل ناديا مسيحيا مغلقا، لا مكان فيه لدولة مسلمة كانت حتى ثمانين عاما مضت عاصمة لآخر دولة خلافة إسلامية، وبين الحاح أنقرة واستعصاء الاتحاد الأوروبي، تمكن حزب الرفاه(إسلامي) بزعامة أربكان، ثم حزب العدالة والتنمية(إسلامي) بزعامة أردوغان من الصعود الى الحكم، وسط ميل متزايد لدى انقرة للعودة الى الفضاء العربي – الإسلامي، ربما لدور تراه مستحقا لها وسط حديث عن شرق أوسط جديد بشر به رئيس وزراء اسرائيل الأسبق شيمون بيريس، وربما للإمساك بورقة إضافية تكون ضمن مسوغات الالتحاق بالنادي الأوروبي عندما تحين الفرصة.حالة الضعف او العجز التي يعانيها النظام الإقليمي العربي تحت تأثير وقائع ثقيلة شهدتها المنطقة بين منتصف السبعينيات وحتى سقوط بغداد بكل تداعياته، ربما أغرت ثلاث قوى شرق أوسطية بالتنافس للفوز بحصة معتبرة فيه، فإيران تطرح نفسها في الشارع العربي كمدافع عن قضايا الأمن العربي ضد اسرائيل بمعادلة قوة، فيما تطرح تركيا نفسها في المقابل بأدوات السياسة والقوة الناعمة بديلا ربما حظي بقبول أوسع لدى شعوب المنطقة، على خلفية ارتباط عضوي عميق دام قرابة أربعمائة عام، بينما تسعى اسرائيل لإزاحتهما معا، والانفراد برسم خارطة الشرق الأوسط الجديد كما رآها بيريس.قبل ألف وخمسمائة عام انقسم العرب، بين عرب الفرس وعرب الروم، ثم جاء الإسلام ليضع نهاية للإمبراطوريتين معا ويضم أملاكهما الى خارطة دولة الخلافة الإسلامية، وقبل نحو نصف قرن انقسم العرب الى عرب السوفييت وعرب الأمريكان، ثم انهارت الكتلة السوفيتية لينفرد الأمريكيون بالعالم كله، والآن تبدو المنطقة على شفا اختيار مر بين عرب الفرس وعرب الترك، فيما تتهيأ إسرائيل للانقضاض على الجميع، ولا مخرج من كل هذا سوى بعودة المنطقة الى اصحابها الحقيقيين وهى لن تعود قبل ان يعودوا هم الى جادة الصواب عبر شراكة حقيقية للشارع العربي في عملية تقرير المصير العربي وحماية المصالح العربية،لأن تغييب دور المواطن الفرد يقود الى غياب دور الأوطان كلها .
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store