Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الأحلام المهاجرة

باريس في الشتاء كعادتها ممطرة، الناس تجد الخطى تحت الرذاذ والسماء الرمادية هربًا إلى جدار أو نفق يحميها، ساقتني قدماي إلى مقهى في أحد شوارعه، كان المطر يصيب الجميع بالبلل حتى العظم، الكل يدخلون أيديهم

A A
باريس في الشتاء كعادتها ممطرة، الناس تجد الخطى تحت الرذاذ والسماء الرمادية هربًا إلى جدار أو نفق يحميها، ساقتني قدماي إلى مقهى في أحد شوارعه، كان المطر يصيب الجميع بالبلل حتى العظم، الكل يدخلون أيديهم في ستراتهم يستمطرون الدفء، أخذت أتأمل المطر بعد أن احتميت بالمقهى.
عشت وقتًا ليس بالقليل أحدّق في مرتادي المقهى، وأتأمل تفاصيل كثيرة كانت تغطيها وجوه المهاجرين، تطلّعت إلى الدخان المتصاعد من أنوفهم، كان ذلك الدخان يشبهني إلى حد ما (فبياض ما فوق رأسي لا يعني أن الدفء لا يعيش في داخلي)، كانت رقائق الثلج المندوف تتساقط في الخارج، أخذتُ أتأمّل شبابيك البيوت المجاورة تتساقط من أطرافها الثلوج المسننة المسكرة كخناجر الحب، كانت الثلوج حلية حول أعناق النوافذ.
أحاديث بعض المهاجرين تخترق صمت المقهى يتنفسون مع كل زفرة نفس من الدخان، الوجوم على وجوه المهاجرين حيث العالم في بلدانهم يترنّح، والموت يرقص رقصته، ويمتد الحريق من أقصى حدود الروح حتى أدنى محيط الدم.
يحكي كل من المهاجرين حكاية المساء ليسمعها لنفسه ولجاره في المقهى، إنه ضياع محتمل فلا أحد يعرف ما هو مصير بلدانهم التي هاجروا منها لطلب الرزق! أحد المهاجرين كان يغرس نظرته في الفراغ، وعلى وجهه شحوب يعلق قائلاً "نار أشعلت في بلداننا"، صوته يصلنا جارحًا مجروحًا.
كانت الكلمات نسمعها بغصّة في حلوقهم، كلمّا تحدّث أحدهم عن بلاده وأحلامه، وتتعثر الكلمات في الانفعالات، وكأن الجميع ينظرون إلى أفق مغلق!! كان واضحًا ضياع الربيع العربي بين الكوابيس والأحلام، واسترقت النظر لإحدى المهاجرات كانت تكتب على غطاء طاولة المقهى قصيدة محمود درويش "ماذا جنينا نحن يا أمّاه، حتى نموت مرتين؟ فمرّة نموت في الحياة، ومرة نموت عند الموت".
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store