Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

بهاء في عمق الظلمة

كان سرفانتس يقول لحظة اشتداد اليأس، من خلال بطله دون كيخوت دي لا مانشا: علينا أن نجد فسحة للفرح، وأن لا نيأس في وضع كل ما فيه يدعو لليأس. هذا يعني أن الفرح وسيلة دفاعية ضد الإفناء والموت.

A A
كان سرفانتس يقول لحظة اشتداد اليأس، من خلال بطله دون كيخوت دي لا مانشا: علينا أن نجد فسحة للفرح، وأن لا نيأس في وضع كل ما فيه يدعو لليأس. هذا يعني أن الفرح وسيلة دفاعية ضد الإفناء والموت. للعرب كما للشعوب جميعًا الحق في الفرح والسعادة، ولو أنه من كثرة المآسي التي تنام داخل اليأس، نسينا أنه بإمكاننا صناعة ذلك بوسائلنا وعقولنا وقدراتنا الكبيرة. تحولات عنيفة وحرائق في كل مكان أنستنا ذلك كله. طبعًا، من الصعب على الذي يعيش داخل هذه الفضاءات الحارقة أن يرى خارج الرماد الذي يملأ عينيه وقلبه وملامسه. على الرغم من ذلك كله، هناك شيء من النور يكاد لا يُرى من شدة حاضر يشتعل في كل الأمكنة. هناك هزات تجعل من الأمل إمكانية محتملة. كلما دخلت بلادًا سألت عن ثلاثة أشياء لرؤيتها: دار الأوبرا، المتحف الوطني، وساحة مركز المدينة Down town، لا أعرف السبب المتخفي من وراء ذلك. في زيارتي الأخير لمسقط/ عُمان، اندهشت حقيقة وأنا أعبر عتبات دار الأوبرا السلطانية بمسقط، بكل ثقلها وقوتها، ورقّة اليد التي تفننت في سقفها وإضاءتها. سمعت عن هذه الأوبرا الكثير، ولكني لم أكن أتصوّرها بكل تلك الأناقة، وذلك الجمال الذي يليق بدار للأوبرا. فهي ليست فقط معلمة حضارية متقنة الصنع، امتزجت في هندستها الراقية والخاصة جدًّا نماذج متعددة ومتنافرة في الكثير من عناصرها الحضارية، ولكنها وجدت مشتركًا غريبًا في الأوبرا السلطانية. استطاعت أن تولف بين النموذج الإيطالي المتأصل في الثقافة الغربية، والميراث العمراني العماني الأصيل. وجدتني فجأة أمام مساجد وقلاع وقصور غرناطة وإشبيلية وطليطلة حيث امتزج الميراث القوطي بالذبذبات الحضارية الوافدة ليتشكل من خلالها نموذج عالي القيمة. ما لمسته في الأوبرا السلطانية دلالة كبيرة على وعي كبير بأن الموسيقى في النهاية هي أفتك سلاح عابر للقارات ضد الذين يحصرون البشرية في عرق، أو دين، أو أمة، أو لغة، أو جنس، ومن أرقى الوسائل التربوية وتحسيس الناس بقيمة الإنسان. للموسيقى قوتها وللفضاء سلطانه. قدمت ليلتها أوبرا فرقة بالي مونتريال الكندية أرقى ما لديها من باليها المعاصر من التراث الإنساني الرفيع الروح لشوبان وسكارلاتي، والتحفتين الفنيتين ساكري والعُرس لإيغور سترافينسكي. كان السحر مزيجًا من أناقة المكان، ودهشة السيمفونية والأداء العظيم للراقصين الذين كثيرًا ما شكّلوا لوحات متواترة امتزجت بجمالية المكان. الأجمل من هذا كله هو الجمهور، الذي يعطي للفضاءات الراقية معنى ودلالة، وإلاّ ستظل حيطانًا جميلة لا أكثر، بلا روح وبلا معنى. الجمهور العُماني توافد ليلتها على الأوبرا، نساءً ورجالاً حتى امتلاء الصالات والشرفات. هذا وحده كان هو العلامة الفارقة في تلك السهرة. قلت في خاطري بمزيد من الإعجاب الممزوج بالفخر والحب، وأنا أتأمل فرحة العائلات التي ارتادت المكان الجميل بلياقة عالية: ما يزال العالم العربي ببعض الخير. طوال السهرة لم أسمع حتى طنين ذبابة هاربة. حتى السعال لا يخرج إلاّ عندما يتم الانتهاء من الجزئية. هناك لحظات رمزية تعيدنا دومًا نحو سلطان الحياة. لم يكن سرفانتس مخطئًا عندما جعل من الأمل ضالته الكبرى في الحياة. نحتاج أن نرى ونشم ونلمس ونحس ما ينسينا اليأس لكي لا نموت قبل الموت.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store