Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الإدارة الجديدة وشدّة الغربال

الغربال الجديد له شدّة، كما يقول المثل الشعبي، وشدّة الغربال الجديد تفرضها طبيعة عدم الاستعمال وقلة الممارسة، وهذا هو حال القادم إلى منصب قيادي لأول مرة، نجده يدخل إلى مكان يجهل أبجدياته وآلياته، وهو

A A
الغربال الجديد له شدّة، كما يقول المثل الشعبي، وشدّة الغربال الجديد تفرضها طبيعة عدم الاستعمال وقلة الممارسة، وهذا هو حال القادم إلى منصب قيادي لأول مرة، نجده يدخل إلى مكان يجهل أبجدياته وآلياته، وهو مشدود بعنفوان البدايات، وبزهو الجلوس على كرسي التحكّم: هو لا يعرف المكان، والمكان لا يعرفه.
في حالته الجديدة المشدودة هذه ينظر المدير إلى الهرم أسفل منه، فيستخلص فورًا أنه إنّما جاء لإنقاذه من السقوط، وأنه بالضرورة سيكون أفضل ممّن سبقه في الإدارة، ذلك الذي تركها في حالة بائسة من التدهور، فيشمر عن ساعديه ليبدأ تسطير صفحة جديدة من التطوير غير المسبوق. كل ما يطمح إليه هذا الجديد هو ترك بصمته المميّزة في عهده الميمون. كلمتا «البصمة» و»العهد» ليستا استعارتين للتقريب، بل هما مفردتان تتكرّران كثيرًا في الإدارات، وهما كلمتان خطيرتان إن تأملناهما؛ لأنهما محمّلتان بمعاني التملك الشخصي للعمل ولمكان العمل.
يتطلب العمل الجديد التخلّص من العمل القديم، تمامًا. تبدأ عمليات المحو بتبديل أثاث المكتب المديري، والتي يتبعها تغيير ترتيب الأثاث داخل الغرفة، فلا يمكن أن يواجه المدير الجديد تلك النافذة التي كانت بمواجهة المدير القديم. بعد ذلك يتخيّر المدير رجاله، ومستشاريه، ومساعديه الجدد، والذين يفضل أن يستقطبهم من خارج إدارته القديمة، فيتشكّل طاقم عازل بين المدير، وبين الموظفين القدامى، وخبراتهم العملية، فيصيبهم الإحباط من كثرة التوهان في غمائم البلبلة التي تصحب كل مدير جديد.
يجتمع المدير المشدود بمستشاريه ونوابه، وعادة ما يكون على أجندتهم فكرة تغيير صورة المؤسسة بالكامل، فتبدأ عروض وكالات الإعلانات المتنافسة لإخراج النيو لوك، ويظهر للمؤسسة شعار (لوجو) جديد، وشعار (سلوجان) جديد، ويتبع ذلك بالطبع تغيير كل الأوراق الرسمية، والخطابات، والمذكرات، والملفات، ولوحات المؤسسة، وفروعها في كل مكان، بعد التخلّص من الركام القديم. وينظر المدير حوله فيكتشف أنه لا يتفق مع رؤية المؤسسة ولا أهدافها، ولا منهجيتها التي لم يتعرف عليها بعد، فيستدعي شركات أخرى تكتب اللوائح التي توضّح معالم الطريق الجديد. ولا بد بالطبع من تغيير أنظمة العمل داخليًّا ونقل الموظفين من دوائر إلى أخرى، وغير ذلك من تجديدات يستحدثها الجديد، إذ كيف يكون جديدًا إن لم يأتِ بالجديد؟
إلى الآن لا مشكلة، لكن حين يبدأ العمل الجاد، يتحوّل المشدود إلى مسترخٍ، ولا تظهر لجهوده التغييرية نتائج تختلف كثيرًا عن نتائج المدير القديم، فتدور فجأة أسطوانات: لست ساحرًا، ليس عندي عصا موسى، كيف أحوّل الفسيخ إلى شربات في وقت قصير؟ من الواضح أن سبب هذا التعثّر هو عدم التعرّف على النظام القائم، ولا الإبقاء على أفضل ما فيه، هو التغيير من أجل التجديد ونبذ الماضي بكل ما فيه لبدء عهد جديد. ثم تدور الدوائر، وينتهي العهد وتتلاشى البصمة، ويأتي للإدارة مدير جديد مشدود يتلبّسه عنفوان التجديد وطموح ترك البصمة.
بالطبع لا بد من التجديد بين وقت وآخر، لكن لا بد أيضًا من وقفات تقييمية لما سبق، فلا يعقل أن يعمل إنسان في مكان ما، ولا يترك أثرًا جيدًا يستحق الإبقاء عليه. هذا النسف والابتداء من نقاط الصفر مع التركيز المبالغ به على التغييرات الشكلية يتناقض تمامًا مع مفهوم المؤسساتية، وبديهي أن التيبس والتجمّد في الإدارة خطأ فادح، لكن عدم الاستفادة من المجهودات السابقة والمحافظة على الخبرات التراكمية هو أيضًا خطأ جسيم. لذلك فالتوازن المطلوب يقع دائمًا في منطقة وسطى بين التجديد والاستمرارية.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store