«ود»

في داخلي حديث وفي فمي ماء وأصابعي يربكها الصمت كأنما أحدق في رواية مع تقليبي أوراقها، أصاب بدهشة بعض الأحيان أن الواقع أكثر جمالًا وكمالًا، رأيت كيف أن بعض الأحلام تتحقق أمام ناظري بوضوح لا تشوبها شائبة، حالة من الاستنزاف اليقظ للذكريات المستعادة يوم ولادة حفيدتي «ود»، يومها السماء أمطرت قمحًا ولبنًا، يومها كانت المياه صافية، يومها كان يومًا حلوًا كالعسل وأبيض كالحليب زقزقت العصافير مرحبة بقدومها، يومها جدها وصل المستشفى تنحى جانبًا وتمتم بصوت خافت قلبي يخفق للقائها.
كانت تطلب مني أن أرسم الفراشات والأزهار والأعشاب التي كان تحبها وأخفق في الرسومات فاسمع صوت العصفورة تعاتبني بكل الحب أن الرسمة ليست فراشة، لا تزال كل جمعة تلح عليَّ أن اشترك في مسابقات وفوازير وصراخ البهجة يملأ الفضاء كل ما أخطأت في الإجابة. كنت في أحسن حالاتي النفسية أنجز خرباشاتي التي أطلق عليها رسمًا حسب طلبها بحماس وهمة ونشاط وسرعة لأنال مكافأتي. ومكافأتي أن أقضي معها أسعد الأوقات وأبهجها. لم يكن يضاهي يوم الجمعة البهيجة أي شيء مثل وجودها في حياتنا تناقشني وتعترض على بعض أفكاري فتكون بردًا وسلامًا على قلبي.
وينتهي يوم الجمعة بعد أن تلحفني بعناق حار أتنفس فيها رائحتها وتحيطني بيديها الصغيرتين اللتين أشعر فيها وكأني عصفورة صغيرة رابضة في حضنها، تسرف في الابتسام تطفو كورقة فوق ماء، تسبح كنغمة في فضاء، تمر كل تلك الصور المتفرقة من الحياة، عندما أخبرتني «ود» أنها تبحث عن جامعة للدراسة في الخارج تذكرت كل ذلك وأنا أشاهدها تبحث عن الجامعة كان قلبي يقفز من الإثارة كان قلبي يرتجف كعصفورة. حالة من الغيبوبة الممتعة تأملت تلك الطفلة «ود» أصبحت عروسًا بابتسامتها التي تظهـر أسنانها الجميلة، كبرت حفيدتنا قبل وقتها، لقد ورثت حب القراءة وحمل الكتاب معها أينما كانت، وورثت جمال أمك ورقتها وجينات أبوك الحكيمة، ذروة السعادة قد تكون أوقاتًا قصيرة، ليس لأحدنا الحق في إطالتها فالزمان ترغمه الساعات على الجريان، لكن لنا الحق، كل الحق في الاستمتاع والتلذذ لآخر قطرة بمذاق عذوبتها فأحفادنا ومضات في حياتنا فيارب من له حفيد.. لا تحرمه من حفيده.