Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

نصوم تعبدًا

رمضان آخر منَّ اللهُ به علينا، وبلّغنا صيامه وقيامه، شهر كرّمه الله وأكرمنا بالعبادة فيه خالصة لوجهه الكريم.

A A
رمضان آخر منَّ اللهُ به علينا، وبلّغنا صيامه وقيامه، شهر كرّمه الله وأكرمنا بالعبادة فيه خالصة لوجهه الكريم. الكثير من الناس لا ينصاعون لممارسة التعبّد دون أن ينبشوا ويسألوا ليعرفوا «الحكمة الإلهية» في تشريع عبادة الصوم، وغيرها من العبادات. وكثير هم الذين يتبرّعون بإجابات حكيمة، وكأنهم اطّلعوا فعلاً على مراد الله سبحانه وتعالى من هذا التشريع، أو ذاك. ما هو الدافع للبحث عن حكمة الله جل وعلا في الأمر بصيام هذا الشهر؟ ولماذا يصر السائلون على إيجاد سبب لاختيار هذا الشهر بالتحديد، وسبب الإمساك والإفطار في هذه الساعات بالذات؟ لأن الإجابات تسهب في وصف الفوائد التي يكتسبها الجسم الإنساني من الصيام الذي «يقوّي جهاز المناعة ويحسن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية، ويعالج مرض تصلب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب، وبعض أمراض الدورة الدموية الطرفية»... وغير ذلك من علاج الأمراض الجسدية والنفسية والعصبية.
أمن أجل تحسن صحتنا نصوم؟ وهل كنا سنتوقف عن الصوم لو لم نعرف تأثيره الإيجابي على كل هذه الأمراض؟ ولكن الإجابة التي تجعل الأمر ملتبسًا لدى المؤمن بشكل كبير هي تلك التي تدّعي أنها كشفت عن حكمة الله تعالى من تشريع الصوم، أي أن الصوم قد فـُرض علينا لأن الله سبحانه وتعالي يريدنا أن نتعالج بالصيام. لكن حقيقة الأمر أن الله تعالى قد شرع صيام شهر رمضان لحكمة أكبر وأعظم، أوردها بوضوح في الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183)، فتقوى الله هي الغرض الأساس والوحيد للصيام.
وتتكرر هذه اللجاجة في عبادات أخرى، فالصلاة مثلاً لا بد لها من حكمة تشريع تشتبك مع الفوائد الدنيوية، وبالتالي مع أسباب فرضها وأسرار تشريعها، ويتم الكشف عن أن حركات الصلاة هي أفضل رياضة بدنية للإنسان، فهذه الحركات تحافظ حتمًا على الهيكلة العضلية وتنشطها، وهي كفيلة بتحسين المرونة والمطاطية العضلية والتوافق العضلي العصبي.
وبعد اكتشاف الحكمة من فرض ومشروعية الصلاة، يبدأ التساؤل عن الحكمة في اختيار الله عز وجل أوقات الصلاة الخمسة، ويسود كلام عجيب عن أسباب اختيار الأوقات، فحكمة الصبح هي أن يسجد المسلمون لله قبل غيرهم من الصابئة الذين يسجدون لإشراق الشمس، أو أن الله يختبر عباده الذين يصعب عليهم الاستيقاظ من النوم في تلك الساعة المبكرة، وفي الظهر تفتح أبواب السماء، والعصر هو وقت عصيان آدم ربه... وأسباب أخرى عجيبة لا تفيد بشيء في تقيدنا بأداء الفرض.
يقود هذا التقصي الحثيث عن الحكمة الإلهية من التشريعات التعبدية إلى تفسيرات وهمية مختلقة أو حتى علمية إعجازية لا يستطيع أحد مهما بلغ من العلم أن يجزم أن الله سبحانه وتعالى أرادها أو سببها لنا. وباب الأسئلة لن يغلق مادامت الأجوبة تتوالى، فالناس تريد أن تعرف الحكمة من السجود والركوع وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة والطواف وغيره، والردود تتنافس لإثبات اكتشافات مراد الله منها جميعًا، مستندة إلى «ما توصلت إليه مؤخرًا الدراسات العلمية الغربية»، وهي في معظمها استنادات غير موثقة.
نحن لا نصوم من أجل الفوائد الصحية، أو النفسية للصوم، حتى وإن اكتشفها العلم الحديث، ذلك أننا نعظم شعائر الله تعالى، ونؤدّي فرائضه تعبدًا دون أن نتقصى حكمته، نؤدّيها فقط لأنها أوامره، نؤدّيها فقط لأننا نطيعه.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store