Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الروايات ليست كتبًا فقط..!

الأدبُ إنسانيٌّ في جوهره، ووُجد لتلبية حاجات إنسانية روحية، وكثيرًا ما تحوّل إلى مرايا عاكسة لما في الداخل، لهذا كثيرًا ما وجدنا فيه ما يسعدنا، ويطفئ حرائقنا، ما ظهر منها وما خفي.

A A
الأدبُ إنسانيٌّ في جوهره، ووُجد لتلبية حاجات إنسانية روحية، وكثيرًا ما تحوّل إلى مرايا عاكسة لما في الداخل، لهذا كثيرًا ما وجدنا فيه ما يسعدنا، ويطفئ حرائقنا، ما ظهر منها وما خفي. لكن المسألة ليست دائمًا بتلك البساطة، نسعد بالقراءة ونعجب بالشجاعة التي تتجلّى من وراء النص، وننسى أحيانًا أن وراء الكثير من النصوص العالمية التي نقرأها، حياة وُضِعت في الميزان، رغبة في الحرية والصدق. في الحياة الكثير من الصدف الجميلة.
في استراحة التوقيعات، في معرض بيروت، جلستُ مع الدكتورة عايدة مطرجي التي قامت على ظهرها، مع رفيق دربها الدكتور سهيل إدريس -رحمه الله- دار الآداب ومجلتها القومية. قصت عليّ مغامرة روايتي سيدة المقام التي كان يفترض أن تصدر في عز موجة الإرهاب، في دار الآداب في 1993، ولكن أجِّل نشرها بسبب التهديدات الإرهابية. قالت: تناقشت كثيرًا مع الدكتور سهيل، هل ننشر رواية أحببناها حقيقة، في ظل مخاطر كانت ترتسم في الأفق، ونفقد في النهاية الكاتب؛ لأننا كنا على يقين أن نشرها سيؤدّي حتمًا إلى اغتيالك؟ أم نحافظ عليك في انتظار تحسن الوضع بتأخير إصدار الرواية؟ كان الحل الثاني هو الأكثر حكمة. وحتى نقنعك، انتقلنا نحوك إلى الجزائر في عز الإرهاب. بحثنا عنك في كل الأمكنة الثقافية التقليدية التي ترتادها عادة، اتحاد الكتاب، الجاحظية، الجامعة، وفي كل مرة يُقال لنا إنك تعيش حياة سرية في الجزائر، بسبب التهديدات الإرهابية. ومع ذلك ذهبنا حتى بيتك في الحي الشعبي المكتظ (باب الزوار). عندما صعدنا إلى الطابق الخامس والأخير بشق الأنفس أنا والدكتور سهيل، لانّ المصاعد في الجزائر تبدأ من الطابق السادس، دققنا طويلاً على الباب الحديدية بلا جدوى. سمعتنا جارتك في الطابق الرابع (ماما لويزة). أكدت لنا بعدما استراحت لنا من لغتنا بأننا أجانب، أنك غادرتَ منذ شهور. ونحن نهم بمغادرة الحي، صادفنا ناسًا يصرخون: الكلاب لقد قتلووووه. ارتعبنا. خفنا أن تكون أنت. سألنا، فقيل لنا إن المغتال شاب صحفي بالتليفزيون (إسماعيل يفصح). سعدنا أنك لست أنت، وحزنّا على الصحفي. رجعنا إلى اتحاد الكتاب، فكانت الصدفة جميلة إذ التقينا هناك بإحدى طالباتك، (الإعلامية غ.س.ع) قالت أنا مكلفة بأخذ رسائله، حيث يقيم برفقة عائلته الصغيرة. سأخبره عن مكان وجودكما. سألتنا عن اسم النزل، فقلنا لها: آليتي/ السفير. وبعد أقل من يوم كُنتَ هناك واقفًا وراءنا متنكرًا بنظارات سود، وعلى رأسك قبعة لاعبي البيسبول الأمريكيين. التفت نحوك سهيل. نظر قليلاً إلى وجهك بدهشة قبل أن يضحك وهو يقول: لازم تغيّر صوتك، وعينيك، وطولك. تذكرت كلمة الشهيد عبدالقادر علولة التي قالها لي وهو يوقفني في شارع ديدوش مراد الرئيس: لازم تنقص شوي من رجليك حتى تمر. عملك لا يتطلّب إلاّ ورقة وقلمًا. ضعهما في جيبك وارحل، نحتاجك حيًّا. لو كنت أستطيع حمل مسرح وهران على ظهري، ما ترددت في الخروج.
فجأة رأيت لمعانًا جميلاً يرتسم في عيني الدكتورة عايدة على الرغم من ثقل السنين. قالت: كلما رأيتك اليوم توقّع كتبًا، أو محاطًا بمعجبيك الكثر، تأكّد لي أن موقفنا أنا والدكتور سهيل بتأخير نشر رواية سيدة المقام كان قاسيًا، لكنه كان صائبًا، فقد ربحناك حيًّا، وربحك هذا العدد الجميل من رواياتك وقرّائك.
اليوم، كلّما قرأت رواية تقول الإنسان، أشعر بهزات داخلية عنيفة في داخلي، ربما كانت تلك رعشة الحياة التي استمرت شعلتها حتى اليوم، ولا أملك إلاّ السير على هديها. شكرًا لكما دكتور سهيل، ودكتورة عايدة. كنتما أكثر حكمة وتبصرًا، وكنت أكثر شبابًا تهورًا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store