Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

خطاب «الوعظ» بين العقل والعاطفة

No Image

تثار في أحايين كثيرة مسائل تُعرض في شؤون العقيدة تارة، وشجون الحياة تارة أخرى، فيعتلي بعض الدّعاة المنابر حسمًا في مسألة كبرى أو صغرى، أو بسطًا في تقرير شأن من شؤون الخلق، فينثر عليهم الدّعاة، وبعض ال

A A
تثار في أحايين كثيرة مسائل تُعرض في شؤون العقيدة تارة، وشجون الحياة تارة أخرى، فيعتلي بعض الدّعاة المنابر حسمًا في مسألة كبرى أو صغرى، أو بسطًا في تقرير شأن من شؤون الخلق، فينثر عليهم الدّعاة، وبعض الوعّاظ لبوسًا عاطفيًّا تأخذ ألوانًا شتّى من الكلمات، والمواعظ التي درج عليها أغلب المتبارين، فيتأثر بها بعض الخلق تأثّرًا لا يخرج عن السّياق العاطفي، والذي سرعان ما يتلاشي خروجًا من سلطة العاطفة في ذات المقول، أو يتلقّفها بعض الجهلة في فورة الغليان الدّاخلي فيصبّها في قالب القبيح جرمًا وفعلاً منكرًا، أو كبيرة من كبائر الذّنوب قتلاً وسفك دماء.
الأمر الذي يجب أن نعيره كبير اهتمام؛ كون المساس بعواطف النّاس، واستدرار مخبوءاتهم الوجدانيّة بالكلمات الرنّانة، والجمل المسجوعة؛ تعجب -ولا شكّ- الكثير من الدّهماء والعامّة، وتعمل عملها الذي لا ينكره إلاَّ معاندٌ أو مكابرٌ؛ ولكنّ الشّيء الذي لا مراء فيه أنَّها لا تقوّم سلوكًا مستشريًا، ولا تقيم فعلاً معوجًّا، ولا تعدّل سوءةً ملتوية، وإنّما هي في خاتمة المطاف مجرّد سلوك ديماجوجي يستهدف أوّل ما يستهدف تحريك ما سكن من عواطف النّاس، وتهييج ما أسن من شعورهم بسقف طموح متدنٍّ في مقام الإصلاح والتّقويم.
إنَّ القرآن الكريم أشار في مواضع عدّة إلى العقل في معرض الآيات الكثيرة؛ تنويهًا به، والاحتكام إليه في أوامر العقيدة والتّكليف. فهو لا يذكر العقل إلاّ في مقام التّعظيم والتّنبيه إلى وجوب العمل به والرّجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية؛ بل تأتي في كلّ موضع من مواضعها مؤكّدة جازمة بالّلفظ والدّلالة.
وإذا كان خطاب القرآن الكريم في كثيرٍ من مواضعه يعتمد على خطاب العقل في أوامره ونواهيه إلاّ أنّ تكرار الإشارة إلى العقل لا تأتي بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النّفسانيّون؛ بل تشمل وظائف الإنسان العقليّة على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعدّد التّفرقة بين هذه الخصائص والوظائف في مواطن الخطاب ومناسباته -كما يقول ابن رشد- فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التّأمّل الصّادق، والحكم الصّحيح؛ بل يعمّ الخطاب في الآيات القرآنيّة كلّ ما يتّسع له الذّهن من خصيصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها إذ هي جميعًا ممّا يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكّر الذي يتولّى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
والأمر الذي يجب التّأكيد عليه أنَّ العقل من زاوية الاسم لم يُذكر في القرآن قطّ، ولكنّ فعل عقَل في الماضي والمضارع وفي صيغة اسم الفاعل مذكور بكثرة، خصوصًا صيغة المضارع التي تفيد بيان الحال. ومع تنوّع الصّياغة والسّياقات فإنَّ مادة (ع.ق.ل) في القرآن ثابتة المعنى، بحيث يمكن القول إنَّ مفهوم العقل في القرآن يشير كما يقول بذلك المفكّر محمّد الجابري إلى (القوّة المتهيّئة في النّفس لقبول العلم)، ويعبّر عنها في الاصطلاح الكلامي والفقهي بـ(العقل الفطري أو الموهوب، أو الغريزي، أو التمييزي)، وفي اصطلاح الفلاسفة (العقل بالقوة) أو الهيولاني، أو المنفعل...
ويشير الجابري لمفهوم العقل إلى (العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوّة)، ويعبّر عنه في الاصطلاح بـ(العقل المُكتسب)، أو (التّجريبي)...
وبصفة عامّة يمكن القول إنّ مفهوم «العقل» في الاصطلاح الإسلامي ينصرف معناه، في مجال العقيدة إلى العقل المُكتسب، وفقدانه أو ضعفه ليس أمرًا طبيعيًّا؛ بل هو من نتيجة فقدان الرّغبة في طلب المعرفة. أمّا في مجال التّكليف الشّرعي فيشير إلى القوّة النّفسيّة، أو الملكة العقليّة -لا فرق- التي ينفصل بها الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة في تعريف الإنسان بأنّه (حيوان عاقل).
وجملة القول مع تشعّب الحديث في ماهيّة العقل، وقوّة إدراكه والاحتكام إليه والتّعويل عليه، ووضعه في الميزان الذي وضعه القرآن الكريم؛ تعظيمًا وإكبارًا، فقد وجب على الدّعاة -تحديدًا- تحسّس القصور في خطابهم الإنشائي، وتلمّس الخطأ الذي يرتكبه بعضهم في حقّ عباد الله.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة