Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

وسوسة المفاهيم كالشيطان الرجيم

تُمَارس المُصطلحات والمَفاهيم دور العَميل المُزدَوج، الذي يُقدِّم خَدَمَاته لكُلِّ الأطرَاف، التي تَكنُّ العَدَاء لبَعضها، ولَا يَهمّه مَن هو صَاحب الحَق في أي نِزَاع، فتَتشكّل المُصطلَحَات والمَفا

A A

تُمَارس المُصطلحات والمَفاهيم دور العَميل المُزدَوج، الذي يُقدِّم خَدَمَاته لكُلِّ الأطرَاف، التي تَكنُّ العَدَاء لبَعضها، ولَا يَهمّه مَن هو صَاحب الحَق في أي نِزَاع، فتَتشكّل المُصطلَحَات والمَفاهيم بطَريقة زِئبقيّة، وتَتلوّن كالحربَاء حَسب الطَّلَب..!
مَثلاً، حِين تَندلع الحَرْب بَين دَولتين، تُصبح جميع مَبادئ وَثيقة أسرَى الحَرب -التي وقّعتا عَليها في مِيثَاق جِنيف- مُجرَّد حِبر عَلى وَرق، حَيثُ يُصبح للجُندي -الذي يَقع في يَدي الجُندي المُقَابِل لَه- أكثَر مِن اسم، فدَولته تُسمِّيه «جُنديًّا مُختَطفًا»، وتَتّهم الدّولَة المُعادية بإسَاءة مُعاملته وتَعذيبه، في حِين تَنفي الدولة التي أَسَرَت الجُندي هَذه المَزاعم، مُؤكِّدة أنَّها وفَّرت لَه كُلّ مَا يَحتاجه، مِن طَعامٍ ودَوَاء ومَلَابِس، وأنَّها تُعامله مُعاملة إنسَانيّة، رَغم أنَّه -مِن وجهة نَظرها- «مُجرم حَرب»، وسيُقدَّم لمُحَاكمة عَسكريّة، وأنَّه لَا يَتمتّع بالحقُوق القَانونيّة لأسرَى الحَرب..!
لَكن مَا أنْ تَضع الحَرب أوزَارها، حتَّى يَكتشف طَرَفَا الصِّرَاع؛ بأنَّ المُصطلحات والمَفاهيم مَصنوعة مِن البلَاستيك، أو الصّلصَال، ويُمكنها أنْ تَتحوَّل إلَى أي نَمَط يُريدَانه، حَسب مَصالحهما، لتَطفو عَلى السَّطح مُفردات المُفَاوضات والسَّلَام، وحَق كُلّ طَرَف بالتَّمتُّع بالعَيش بحُرية، وكَرامة وأَمن، وتَتلَاشَى مُفرَدَات «مُجرم حَرب»، و»الكيَان المُعَادي»، لتَحل مَحلّها مُفرَدَات «أَسير حَرب»، و»الدَّولة المُجَاورة»، ويَتم تَبادُل الأَسرَى وَفق اتّفاقية جِنيف، وتَرسيم الحدُود وَفق تَنسيق أَمني مُشترك، يُعيد لكُلِّ طَرف مَا فَقده مِن مَناطق أثنَاء الحَرب، وتَبادُل الخَرائِط التي تَكشف بدقّة مَواقع حقُول الألغَام؛ التي زَرعها كُلّ مِنهما في أَرض الآخَر أثنَاء الحَرب، وقَد يَتّفق الطَّرفَان -أيضًا- عَلى تَعويض بَعضهما؛ عَن الخسَائر المَاديّة والبَشريّة، التي تَكبَّدها كُلّ مِنهما بسَبَب الحَرب، وَفق تَنازلات مُؤلمة غَالبًا، حِين يُدرك طَرَفَا الصِّرَاع؛ أنَّ دَفع الثَّمَن البَاهِظ اليَوم؛ خَيرٌ مِن التكهُّن بكَوارث ومَآسٍ؛ ستَحدث غَدًا لَا مَحالة، إنْ استَمرّت الحَرب..!
حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!
بَقي أنَّ مَقولة: «لَا رَابِح في الحَرب»، غَير دَقيقَة، لأنَّ الوَسيط الذي يَنجح في فَرض تَسوية بَين المُتحَاربين؛ سيَنظر إليهِ العَالَم باعتبَاره بَطل الإنسَانيّة، وهَذا البَطَل مَدين بالامتنَان للمُصطلحات والمَفاهيم، التي أجّجت الحَرب في البدَاية، وأجبَرتها في النّهاية عَلى وَضع حَدٍّ للقِتَال..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store