Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

تقنيات استفزازية !!

برر أحد كبار المسؤولين العرب عن الصناعات العسكرية في بلاده ، عدم سعي الصناعات العسكرية العربية لامتلاك صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، بقوله ان الثمن السياسي لمثل هذا المشروع قد يكون مكلفاً، واضاف المسؤول الذي كان يتحدث لإحدى الفضائيات العربية، “نحن نصنع الصواريخ بالمدى الكافي للنيل من  أعدائنا المرجحين، ولا نرى مبررا لتصنيع صواريخ أبعد مدى”. وبالطبع لم يقل هذا المسؤول ما اذا كان امتلاك الصواريخ في برامج الفضاء يستفز الأعداء المحتملين أم لا؟

A A

برر أحد كبار المسؤولين العرب عن الصناعات العسكرية في بلاده ، عدم سعي الصناعات العسكرية العربية لامتلاك صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، بقوله ان الثمن السياسي لمثل هذا المشروع قد يكون مكلفاً، واضاف المسؤول الذي كان يتحدث لإحدى الفضائيات العربية، “نحن نصنع الصواريخ بالمدى الكافي للنيل من  أعدائنا المرجحين، ولا نرى مبررا لتصنيع صواريخ أبعد مدى”. وبالطبع لم يقل هذا المسؤول ما اذا كان امتلاك الصواريخ في برامج الفضاء يستفز الأعداء المحتملين أم لا؟ وما اذا كان امتلاك تقنيات الاستطلاع والتجسس عبر الفضاء عملاً يمكن الخوض فيه أم يتعين تجنبه.وما اذا كانت أنشطة جمع المعلومات عبر الوسائل التقنية المتطورة تعتبر نشاطا استفزازيا لا ينبغي المغامرة بخوضه، مؤثرا خوض معارك المستقبل وسط عتمة معلوماتية حتمية، لن تقود بدورها الا الى خسارة حتمية.
قبل حوار المسؤول العربي البارز بسنوات، سألت مسؤولا دبلوماسيا عربيا آخر  رفيع المستوى وأنا اضع أمامه خارطة بلاده عما يعتبره حدودا لأمنها القومي ،فأجابني وقد رفع عقيرته، وكأنما يحذرني من الاقتراب من محاولة مناقشة مفهوم الأمن القومي باعتباره سراً حربيا: هذه هى حدودي للأمن القومي لا نتجاوزها ولا نسمح لأحد بتجاوزها.. أما الحدود التي راح يجري فوقها على الخارطة بقلمه الأحمر فهى حدود بلاده السياسية، أي أن الحدود السياسية هى فقط النطاق الذي يتعين على دولته- من وجهة نظره طبعا- حمايته والتصدي لمن ينتهكون حرمته.
المسؤول الأول كان يرى انه لا معنى للسعي الى امتلاك تقنيات عسكرية أبعد مدى، باعتبارها “تقنيات استفزازية” ولا أدري لماذا لا تتوقف اسرائيل عن استفزازنا كل يوم بامتلاك التقنيات الابعد مدى والأعلى كفاءة، ولماذا لا يستفزنا وجود أكثر من مائتي رأس نووي في اسرائيل التي تفخر بامتلاكها تقنيات حمل هذه القنابل الى مناطق أبعد بكثير من حدودها، ولا لماذا لا يستفزنا إعلان ايران بين وقت وآخر عن امتلاك صواريخ ابعد مدى وأكثر دقة،ولا نسأل أنفسنا ..لماذا تسعى الهند مثلا وهى دولة مسالمة او هكذا تبدو على الأقل فيما يتعلق بالمنطقة العربية، الى امتلاك حاملات طائرات وغواصات نووية.
 والمسؤول الثاني كان يؤثر السلامة فيما يبدو، فلا موقعه ولا علمه يحملانه الى قول ما قال، لكنه قاله على اي حال، وأظن أن علمه وموقعه كانا يحتمان عليه أن يعرف أن بلدا مثل الولايات المتحدة تستخدم كافة الوسائل بما فيها الأساطيل الحربية لحماية ما تقول أنه “مصالحها الحيوية”، اي أن حدود المصالح لا حدود الجغرافيا هى التي ترسم حدود الأمن القومي لدولة ما، وفيما يبدو فإن ثمة تصورا غير دقيق في الثقافة العربية يربط فحسب بين مفهوم الأمن ومفهوم القوة المسلحة، غير مدرك لحقيقة أن ثمة عناصر أخرى للقوة لا تبلغ بالضرورة حد استخدامها، فتكتفي أحيانا بامتلاكها كرادع يحمل أعداءها الحاليين والمحتملين على التفكير ألف مرة قبل الإضرار بمصالحها، أو بالتلويح بها ، فضلا عن صور أخرى للقوة الناعمة لا يوليها أغلبنا في العالم العربي اهتماما، فالأزهر بتاريخه وعلمائه وتلاميذه ينبوع لا ينضب للقوة الناعمة إذا ما أحسن توظيفه، و فنانة مثل فيروز أو أم كلثوم أو فنان مثل محمد عبده، أو مقرىء للقرآن الكريم مثل الحذيفي أو عبد الباسط عبد الصمد، أي من هؤلاء يمكن أن يكون أحد أدوات القوة الناعمة للتاثير الإيجابي لصالح الأمن القومي لبلاده، وربما غير مدرك ايضا لحقيقة أن تطور تقنيات النقل والاتصالات قد حمل حدود الأمن القومي بعيدا حتى الى الفضاء الخارجي، وقد سمعنا وتابعنا ما قاله باحث أمريكي متخصص في الحروب الالكترونية عن امكانية الحاق الهزيمة بأمريكا بتكلفة مائة مليون دولار لا غير، من خلال اصابة شبكاتها المعلوماتية بالشلل الأمر الذي يقود الى تعطيل شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والبنوك والمطارات وكل مؤسسات الدولة الحديثة.
..ماذا يحدث لو تعرض قمر صناعي (اشتراه) العرب في الفضاء الخارجي لاعاقة او تشويش او لتهديد حربي من قبل قوة معادية؟ هل ستصلح وقتها أدواتنا ذات المدى “غير الاستفزازي” لدفع خطر استثمر غيابنا المستفز عن ساحات العلوم وتكنولوجيا الفضاء بما فيها الصواريخ؟! لا أظن وأعتقد أنكم مثلي لا تظنون أن ما تحت أيدينا من أدوات قاصرة يمكن أن يدفع أخطارا كامنة بعيدة المدى وربما - لحسن الحظ- ليست وشيكة الوقوع.
اين الحل إذن .. هل يخوض العرب سباق تسلح مع أعداء محتملين؟! ربما كان عليهم أن يفعلوا ذلك، وتذكروا معي ما قاله تقرير النزاهة والشفافية الدولية من أن ثلث الناتج القومي الإجمالي العربي على مدى نصف قرن  (حوالي تريليون دولار) قد جرى انفاقه على برامج التسلح، ولكن هل أتت تلك البرامج بتوازن القوى المنشود؟ أغلب الظن أنها لم تفعل ..لماذا؟! لأننا اخترنا السباق الخطأ ..وفق الآليات الخطأ.. في الاتجاه الخطأ، فالاتجاه الصحيح كان يقتضي السعي لامتلاك المعرفة التقنية، وتطوير برامج التعليم، ودمج ما نحققه من انجازات علمية ضمن نشاطنا الاقتصادي والمعرفي والصناعي..
هل فات الآوان؟ .. هل نحن بصدد سباق خاسر ان بدأناه الآن؟..  لا أظن ذلك فالفرصة مازالت سانحة. . الشباب لدينا يمثل قرابة 60% من مجموع السكان في العالم العربي، والتراكم الرأسمالي المتاح يسمح بالانفاق على التعليم والتدريب واقتصاد المعرفة، كما أننا لا نفتقد الدوافع، فحتى آهات الحسرة على ما فات أمتنا تصبح في مثل هذه الحالة دوافع ايجابية لإعادة تأهيل وتطوير دولنا وشعوبنا على نحو يتيح في نهاية المطاف امتلاك رؤية وارادة لتحقيقها وأدوات لانجازها يوما بيوم وساعة بساعة..

a.moneam@yahoo.com

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store