Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

يا حسرة المنفلوطي على المجتمع الأخطبوطي

منذُ طُفولَتي وأنَا بَعض لَحم أكتَاف ثَقافَتي؛ مِن خَير أُستَاذي الأديب المِصري الكَبير «مصطفى لُطفي المنفلوطي» -أَبوجَلابية مَا غَيره، بتَاع النَّظرَات والعبَرات-، ومَازَال –رَحمه الله- يَتعهّدني برع

A A
منذُ طُفولَتي وأنَا بَعض لَحم أكتَاف ثَقافَتي؛ مِن خَير أُستَاذي الأديب المِصري الكَبير «مصطفى لُطفي المنفلوطي» -أَبوجَلابية مَا غَيره، بتَاع النَّظرَات والعبَرات-، ومَازَال –رَحمه الله- يَتعهّدني برعَايته، ويمدّني بالغِذَاء المَعرفي، مِثل قَوله: (أكثَر النَّاس يَعيشون في نفُوس النَّاس؛ أكثَر مِمَّا يَعيشون في نفُوس أَنفسِهم، أي أنَّهم لَا يَتحرَّكون ولَا يَسكنون، ولَا يَأخذون ولَا يَدَعون، إلَّا لأنَّ النَّاس هَكَذَا يُريدون)..!
بالله تَأمّلوا هَذا النَّص، وطَبِّقوه عَلى مَقَاسَاتِ أَنفُسِكُم، ودَوائر عَرض وخطُوط طُول حَركَاتِكُم، وستَرون أنَّ الإنسَان أصبَح مَمسوخًا، لأنَّه لَا يَفعل مَا يُريد ويَرغب، بَل يَفعل مَا يُريده النَّاس ويَرغبونه..!
خُذ مَثَلاً: رَجُلٌ زَوّج ابنَته، ودَفَع تَكاليف لَا أَوّل لَهَا ولَا آخِر، وعِندَما تَسأله: لِمَاذَا فَعَلْتَ ذَلك؟ قَال: كُلُّ النَّاس يَفعلون هَذا..!
مِثَالٌ آخَر: شَابٌ في أَوّل حيَاته، مَحدود الدّخل، يُكلّف نَفسه الدّيون، ويَشتري أغلَى السيّارَات بالأقسَاط، ويُسَافر بقرُوض الـ»فِيزا» والـ»مَاستر كَارد»، ويَحمل مَعه أكثَر مِن هَاتِف جَوَّال؛ مِن أَحْدَث وأَجْوَد وأَغْلَى الأجهزَة، ويَشتري رَقماً مُميّزاً للوحة سيّارته، ورَقمًا أكثَر تَميُّزًا لرَقم شَريحة هَاتفه، وحِين تَسأله: لِمَاذا تُكلِّف نَفسك كُلّ هَذه الأعبَاء المَاليّة؟ قَال: لَابدَّ أنْ أَظْهَر بالمَظَاهِر التي يَتّبعها النَّاس..!
إنَّ تَقليد النَّاس ومَسْخ الذَّات، ومُجَارَاة الاستهلَاك المَرَضي للسِّلَع، سَعيًا للّحَاق برَكب المُتَفَاخرين بالبَذَخ، أَمرٌ قَديم، ذَكره أَديبنا «المنفلوطي» قَبل مَائة سَنة، حِين قَال: (إنَّك لتَرَى الرَّجُل العَاقِل الذي يَعرف مَا يَجب، ويَعلم مَا يَأخذ ومَا يَدَع، يَبيع مَنزله ليُنفق ثَمنه في عُرس وَلده أو ابنَته، فلَا تَجد لفِعلهِ تَأويلًا، إلَّا خَوفه مِن سَخط النَّاس واتّقاء مَذمَّتهم، وكَثيرًا مَا قَتَل الخَوف مِن سَخط النَّاس، والكَلَف برِضَاهم، ذَكَاء الأذكيَاء، وأَطفَأ عقُول العُقلَاء)..!
حَسناً.. مَاذا بَقي؟!
بَقي أنَّ أَديبنا «المنفلوطي» كَان مِن المَحظُوظين؛ لأنَّه مَاتَ قَبْل أنْ يَكون شَاهِدًا – مِثلنا- عَلَى مَا أَقْدَم عَليهِ إنسَان تَعيس؛ مِن بَيع كِليته مُنذ أَشْهُر، حتَّى يَتمكّن مِن شِرَاء أَحْدَث «جِهَاز آيفون»! فلَو عَلم شَيخنا «المنفلوطي» بهَذه المَأسَاة، لرُبَّما قَال: «الحَمدُ لله أنَّني مِتُّ قَبل هَذا «..!!!.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store