Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

حكاية مؤسسات ناشئة!

درستُ في جامعة (ناشئة)، وتخرجتُ فيها، وعملتُ في جامعة (ناشئة)، وتَعَاقَب عليها أكثر من مدير، وبعد مضي سنوات.. فهي ما تزال (ناشئة)! ولا ندري متى تزول صفة النشوء؟!

A A
درستُ في جامعة (ناشئة)، وتخرجتُ فيها، وعملتُ في جامعة (ناشئة)، وتَعَاقَب عليها أكثر من مدير، وبعد مضي سنوات.. فهي ما تزال (ناشئة)! ولا ندري متى تزول صفة النشوء؟!
في الأشهر الثلاثة الماضية حضرتُ أكثر من مقابلة وظيفية، واختبار مهني، وفي إحداهنّ، ذكر لي المسؤول أن المبنى الصغير الذي تراه -رغم أهمية الجهة، وجدية العاملين فيها وقوّتها- ما هو إلاّ مبنى مؤقت، وغير (دائم)!
وتعاقدتُ في السابق -في فترة موجزة- مع جهة كبيرة ومهمّة.. لكنّها أيضًا تعملُ بكامل جهدها في مبنى مؤقت!
قد يفهم القارئ أني أبحثُ عن المكاتب الفاخرة، و(الدائمة) التي تُشعرك بالارتياح، و(الاستكنان)! غير أنّه من نافلة القول إن من أكثر مسببات الفوضى الإدارية، وهدر الأوقات، الانتقالَ (الدائم) من مبنى لمبنى، ومن صندوق جاهز إلى آخر، وضياع الأوراق، وتسرُّب المعاملات، وتُفقد الأجهزة والأدوات المكتبية؛ مع انتفاء الراحة النفسية، والاستعداد الذهني الكامل كما لو يكون المكان (الدائم)؛ إذ الفكر متعلّق دومًا بالرحيل والتخطيط: (في أيِّ مكانٍ سيكون المكتب الجديد في المبنى الجديد؟)، ولا تعجب إن سمعتَ عن منافساتٍ حامية الوطيس في التخطيط، ورسم الأهداف على المباني الجديدة، وحجزها وهي مرحلة التصميم قبل صب الخرسانة!
ما يضحكني أن القوم في تقشّفهم هذا، واضطرارهم أحيانًا للمؤقّت أحالوني -وهم في قمّة وأوج المادية والتنافسية في هذه الدنيا الفانية- أحالوني إلى بُعدٍ دينيٍّ وروحيٍّ عميقٍ وعظيمٍ يتّصل بالزهدِ والتصوّف!
فالدُّنيا دارُ فناءٍ، ومحطةُ عبورٍ، والآخرةُ هي دارُ القرارِ، وكأنّما أرادوا بهذا التخطيط العجيب تأصيل هذا المعنى، وتعميقه، وتعزيزه في نفوس الموظّفين في المؤسسة المعنيّة بأسلوب المباني غير (الدائمة)! وكلّنا يعرف أن الترحال هو طبيعة بدوية؛ طلبًا للماء والكلأ، وهو يضادُّ طبيعة الحياة المدنيّة المتّسمة بالرتابة والهدوء والاستقرار، وما يرتبط به من روتين يصل لحد الإزعاج من فرطه.
وقد يزول الاستغراب حول استمرار لقب (ناشئة) للجامعات -مثلاً- إذا عرفنا أن فيها (بدل ناشئة) يُصرف للأساتذة دون الموظفين؛ فلا غرابة من عدم انفكاكها عن هذا اللقب!
وما بين (الناشئة)، واللجان (الدائمة) يحار الأستاذ الجامعي بين اللفظين، فهل يستمر (ناشئًا) ويتطوّر حتى تنفك عنه الصفة غير المحبذة للجادّين؟ أم يلهث وراء اللجان (الدائمة) حتّى يظن في اللاوعي أنّه (دائم) بدوام اللجان -معاذ الله- (ولا دايم إلا وجهه)!
ومع تعلق العديد من المسؤولين في المؤسسات ذات المباني المؤقتة بترشيد النفقات، دون إكمال جاهزية المباني (الدائمة)، وشغفهم -في اللاوعي أيضًا- بكلّ ما هو ناشئ.. وتمنيهم أن يبقى (ناشئًا)، وإسرافهم على النحو الآخر في اللجان (الدائمة).. إلاَّ أن المعنى الصوفي ينتفي هنا.. فأساس المدرسة الصوفية يكمن في الزهد، وقتل النفس دون الحاجة للادّعاء والتصنُّع.. وساعتها ستجد في قرارة نفسك أنَّه لا فرق إن اطّلع الناس على حياتك الخاصة: هل تبدو (ناشئة)؟ أم بفكر (الدائمة)؟!
وبزيارةٍ لأقرب مقبرةٍ ستجد يا صديقي أنها: (ناشئة)، و(دائمة) في نفس الوقت! وهي مسألة ليست بحاجة إلى بحث أكاديمي، وفِرق عمل، ولجان لتوصيفها.. فاللّهم (أنشئنا) على طاعتك (دائمًا) وأبدًا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store