Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

عند حافة الهاوية

قبل أيام هددت كوريا الشمالية بـ “رد مزلزل” على أكبر مناورات عسكرية أمريكية - كورية جنوبية مشتركة قرب حدودها، فيما أعلنت طهران عن بدء تشغيل مفاعلها النووي الجديد في بوشهر خلال أيام، وأعقبت ذلك بالإعلان عن ترشيح عشرة مواقع داخل إيران لإنشاء عشرة مراكز لتخصيب اليورانيوم، ورد الأمريكيون بالإعلان عن المضي قُدمًا في المناورات الأكبر في شمال شرق آسيا على الإطلاق، فيما سرّب الإسرائيليون تقارير عبر النسخة الألمانية من صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية المعروفة برصانتها تتحدث عن إلحاح إسرائيلي على واشنطن للتلويح بضربة جوية قاصمة للمشروع النووي الإيراني، وإلاَّ فإن إسرائيل

A A

قبل أيام هددت كوريا الشمالية بـ “رد مزلزل” على أكبر مناورات عسكرية أمريكية - كورية جنوبية مشتركة قرب حدودها، فيما أعلنت طهران عن بدء تشغيل مفاعلها النووي الجديد في بوشهر خلال أيام، وأعقبت ذلك بالإعلان عن ترشيح عشرة مواقع داخل إيران لإنشاء عشرة مراكز لتخصيب اليورانيوم، ورد الأمريكيون بالإعلان عن المضي قُدمًا في المناورات الأكبر في شمال شرق آسيا على الإطلاق، فيما سرّب الإسرائيليون تقارير عبر النسخة الألمانية من صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية المعروفة برصانتها تتحدث عن إلحاح إسرائيلي على واشنطن للتلويح بضربة جوية قاصمة للمشروع النووي الإيراني، وإلاَّ فإن إسرائيل قد تقوم بتوجيه ضربة بمفردها، وربما حتى بدون انتظار ضوء أخضر من واشنطن.
ما حدث ويحدث على المسرحين الإيراني والكوري، هو بعض من تجلّيات زمن الحرب الباردة، أو الحرب بغير حرب، وهو أيضًا أحد أنماط الصعود إلى حافة الهاوية، الذي يشبه إلى حد بعيد لعبة الروليت الروسي، حيث يتبادل المتباريان تصويب مسدس واحد ذي رصاصة واحدة إلى رأسيهما بالتناوب، إلى أن تصيب أحدهما في مقتل، فيما يفوز الآخر بالنجاة!! أو لعلّه يشبه لونًا من ألوان “التفحيط الانتحاري” حيث تنطلق سيارتان وجهًا لوجه بسرعة فائقة ليخسر مَن يهرب من الصِدام الحتمي، فيما يفوز مَن لا يبالي الموت.
طبقًا لتعريف محرّك البحث “التا فيستا” فإن حافة الهاوية هي “سياسة، أو سلوك في العلاقات الدولية بصفة خاصة، يجري خلالها دفع الأمور بدرجة خطيرة باتجاه كارثة -يجب أن تبدو وكأنها حتمية- بهدف إجبار الطرف الآخر على تقديم الحد الأقصى من التنازلات، وذلك من خلال مناورات دبلوماسية، هدفها خلق انطباع بأن أحد الأطراف عازم على استخدام الحد الأقصى من أدوات الضغط للحصول على تنازلات جوهرية”. هكذا يقول محرّك التا فيستا، وهكذا أيضًا تقول خبرات الحرب الباردة التي جرى في مطلعها تبني تلك السياسة التي أعلن عنها جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور.
دالاس لم يخترع سياسة حافة الهاوية، لكنه فقط أعاد تدشينها مجددًا بعدما اختار لها هذا العنوان الذي أصبح “ماركة مسجلة” طوال سنوات الحرب الباردة،  وإذا كان لابد من مخترع لتلك السياسة فلعلّه الصحابي الجليل وخليفة رسول الله أبو بكر الصديق الذي أوصى أسامة بن زيد لدى ترؤسه أول حملة عسكرية عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “احرص على الموت توهب لك الحياة”. فهذا هو التلخيص الحقيقي لجوهر سياسة حافة الهاوية.
لكنّ الصعود عند حافة الهاوية يقتضي توفر درجة عالية لمصداقية التهديد بالحرب، وإلاَّ فإن الطرف الذي يخوض اللعبة دون استعدادات كافية لاستحقاقاتها قد يعرّض نفسه لكارثة، تشبه بدرجة كبيرة تلك التي جرت إبان حرب الخامس من يونيو عام 1967، حين اعتقد جمال عبدالناصر أن التلويح بالقوة قد يكون كافيًا لمنع الحرب، وتحقيق انتصار سياسي، فيما كان الإسرائيليون يسعون بتنسيق أمريكي إلى استدراجه إلى حرب حقيقية جرى التخطيط لها على مدى سنوات للإجهاز عليه ضمن عملية حملت الاسم الكودي “عملية اصطياد الديك الرومي”.
المشهد في شمال شرق آسيا فيما تبدأ أكبر مناورات حربية تحت عنوان «روح لا تُقهر» قد يكون جزءًا من لعبة لعض الأصابع، أو للارتقاء بالصراع عدّة درجات إلى حافة الهاوية، سواء لاصطياد التنين الكوري، أو لحمله على تقديم تنازلات جوهرية بعد إدانته بإغراق قطعة بحرية كورية جنوبية قبل شهرين، أمّا المشهد في منطقة الخليج حيث يجري التصعيد من جانب كل من واشنطن وطهران على خلفية الملف النووي الإيراني المثير للجدل، فقد يكون بدوره مقدمة لعملية اصطياد الطاووس الفارسي، أو لاستدراج راعي البقر الأمريكي إلى مواجهة طويلة ومنهكة لا يبدو مستعدًا لها سواء على الصعيد اللوجستي أو حتى السياسي.
في كل الأحوال ثمة لعبة هي حافة الهاوية، وثمة لاعبون بينهم إيران وكوريا والولايات المتحدة وإسرائيل، الإيرانيون الذين يتحدثون كثيرًا عن لا مبالاتهم بالصعود قرب حافة الهاوية، قد لا يرغبون على الأرجح في خوض مواجهة عسكرية، سواء مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو ضدهما معًا، كذلك فإن الكوريين الشماليين ربما يعتقدون أن أعداءهم لن يبلغوا حد الحرب الفعلية ضدهم بعدما نجح نظام بيونج يانج في تسويق صورته  كـ“مجنون” قد لا يتردد في استخدام سلاحه النووي، سواء ضد اليابان، أو كوريا الجنوبية، أو ضد القواعد الأمريكية في الدولتين، لكن ثمة مخاطر محتملة، وثمة خسائر أو تنازلات ينبغي أن يحصدها مَن لا يبدي أدنى استعداد للتراجع عند لحظة الصدام.
ماذا عن المشهد الراهن في الشرق الأوسط؟ هل ثمة هاوية؟  أظن أن الإجابة هي “نعم”.. وهل ثمة لاعبون بقربها؟ لا أرى سوى إيران وإسرائيل.. إذن هل ثمة أطراف عربية في لعبة قد تقرر مصير المنطقة لسنوات طويلة مقبلة؟.. لا أرى لاعبين عربًا باستثناء قوى تحالفت مع إيران، أو ظنت أن بوسعها استخدام ورقة طهران لتحقيق “نصر بلا حرب”.
تتطلب لعبة الصعود قرب حافة الهاوية جملة اشتراطات تبدو غائبة عن الجانب العربي في سعيه لتسوية مشرّفة مع إسرائيل، فهي تقتضي امتلاك أوراق قوة (بدائل، وخيارات حقيقية)، ووعي أكيد بقيمة تلك الأوراق، ومهارة كافية لاستخدامها، وحسابات دقيقة للمخاطرة، واستعداد أكيد لخوضها، وفوق كل هذا وذاك مصداقية عالية تستمد قوتها من السوابق. لكن سوابقنا في العالم العربي لا تتيح أي هامش من المصداقية، فضلاً عن أن أدوات العمل العربي  ومؤسساته تفتقد القدرة الحقيقة على الاستشراف الصحيح، ولا يمكنها بناء موقف موحد كلّما تعلّق الأمر باستخدام القوة (ليست المسلّحة بالضرورة)، أو حتى مجرد التلويح بها.
أوراق القوة تتيح صناعة انطباع عن خيارات جدية قد يكون من الضروري في بعض الأحيان أن تبدو “مجنونة”، وأن تحمل بعض ما وصفه نزار قباني بـ “نزق الثوار”. فبعض الجنون في صراعات الشرق الأوسط قد يكون ضروريًّا لعقلنة اللامعقول.

a.moneam@yahoo.com

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store