Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

وثيقة المدينة المنورة وقيم التعايش

لا شك أن السكنى في مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تعلِّم أهلها أول ما تعلِّمهم احتضان الاختلاف وتقبُّله ، فهم جيران الرسول الحفيون بضيوف الرحمن القادمين من شتى بقاع الأرض ، على اختلاف مذاهبهم

A A
لا شك أن السكنى في مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تعلِّم أهلها أول ما تعلِّمهم احتضان الاختلاف وتقبُّله ، فهم جيران الرسول الحفيون بضيوف الرحمن القادمين من شتى بقاع الأرض ، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم وانتماءاتهم . وكمدينية ولدت ونشأت في هذه البقعة الحبيبة المقدسة ، تلقنت أبجديات التعددية واحتضان الاختلاف وأنا أنقِّلُ أول خطواتي في درب الطفولة ومراتعها في حي( باب المجيدي) المتاخم للحرم . تعوَّدنا الاحتفاء بقدوم الحجاج وطلائعهم المتمثلة في حجاج البر ، وهم القادمون بالحافلات من دول الجوار ، ثم يليهم حجاج البحر والجو، وذلك دون أن نتوقف مطلقاً أمام اختلافاتهم أو انتماءاتهم المذهبية .
ولازالت نسائم الشوق والحنين تهفو بي لتلك الأيام الخالية ، وأنا أراقب الحجيج كل عام وألتقط ملامح حاجَّةٍ متشوقة للثرى الطاهر وتكاد عيناها تزغردان بفرحة الوصول ، أو حاج متقدم في العمر أنساه قدومه الميمون مكابدة متاعب السفر وثقل العمر ومنغصاته ، ليحتضن فرحته معه أينما يتحرك ، وهو يتمثل خطوات الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وصحبه الكرام في هذه المدينة النورانية .
لازالت المدينة المنورة وستبقى تحمل هذا العبق الجميل المضمَّخ بمعاني الاختلاف والتعايش ، تجدد العهد بالمحبة والتآلف واحتضان المسلمين كافة ليس فقط في موسم الحج ، ولكن في مواسم العمرات الممتدة على ضفاف السنة الهجرية بكاملها .
ولازالت المدينة المنورة وستبقى أبداً مدرسة تعلِّم قيم التسامح والتعايش السلمي ، انطلقت منها الدعوة الأولى لمحاربة الكراهية القائمة على الاختلاف في المعتقد ، وصدر من حمى رسولها وعاصمة الإسلام الأولى أول دستور مدني يدعو للتعايش بين المهاجرين والأنصار أولاً ، وبين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى فيما يسمى بوثيقة المدينة ، والتي تضمنت حوالي اثنين وخمسين بنداً .
من الأهمية بمكان تسليط الضوء على هذه الوثيقة الدستورية الهامة في التعايش والرحمة والعدالة والمساواة بين الناس، ورعاية خصوصيات الفئات المختلفة تحت مظلة الدولة الإسلامية ، والتي كانت محور حديث سمو أمير منطقة المدينة المنورة (فيصل بن سلمان ) في لقائه برؤساء بعثات الحج الرسمية من الدول العربية والإسلامية . فهذه الوثيقة بقيمها السامية المرتكزة على تقبُّل الاختلاف كسُنَّة قدَّرها الله تعالى على عباده ، وضعت اللبنة الأولى في خريطة التعايش وتقبل الآخر ، بل وحمايته ورعايته تحت مظلة الدولة الإسلامية ، إذا ما التزم بواجبات المواطنة في الدولة . ولعلّ من أوجب الواجبات اليوم هو التركيز على هذا التاريخ المشرق من التعايش في الإسلام ، والذي انطلق من المدينة المنورة وتكلل بحقب مضيئة من التعايش في البلاد التي حكمها المسلمون . ولا أدل على ذلك من قصص اليهود الذين عاشوا في الأندلس تحت رعاية الدولة الإسلامية يمارسون طقوسهم بحُريَّة تامة ، حتى أفلتْ شمس الدولة الإسلامية،.. فتلظُّوا -هم والمسلمون الذين لم يستطيعوا النزوح - في نير كراهية الدولة المسيحية المهيمنة آنذاك، وحجر الحريات والقمع الديني الذي ساد بعد ذلك !
ما أحوجنا اليوم لتسليط الضوء على هذه الوثيقة واستلهامها في سَنِّ قوانين تجرِّم الكراهية الدينية ؛ خاصة وقد بلغت التعبئة المذهبية مداها في أوطاننا العربية التي يتناهشها الاحتراب والاقتتال الداخلي في أكثر من بلد عربي ، وتفشى التحريض على المختلف -الذي لا يتورع عن الكذب وفبركة الصور المسيئة- في وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الفتن . فيما يلقي الإرهاب الداعشي الإجرامي بظلاله السوداء على صورة الإسلام- البرىء منه ومن أفعاله الوحشية -ويعيث فيها تشويهاً ، مما يستدعي جهوداً مكثفة لمقارعة الفكر التكفيري بفكر يدحضه ويوضِّح تهافته وهشاشته وبُعده عن قيم الإسلام وجوهره .
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store