Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

عصر التدوين

عصر التدوين

يطلق عصر التدوين عند المؤرخين، والباحثين - غالبًا - على القرن الثاني الهجري، حيث دونت المعارف، والعلوم، سواء كانت علوم العرب كاللغة، والشعر، والأيام، والأنساب، أو علوم السير، والمغازي، وأحاديث الإسلام

A A
يطلق عصر التدوين عند المؤرخين، والباحثين - غالبًا - على القرن الثاني الهجري، حيث دونت المعارف، والعلوم، سواء كانت علوم العرب كاللغة، والشعر، والأيام، والأنساب، أو علوم السير، والمغازي، وأحاديث الإسلام، أو علوم الشريعة كالحديث، وفتاوى الصحابة والتابعين، والأقضية ونحوها.
وقد مثل هذا العصر حلقة مهمة في معرفة التراث، وفي التأسيس له، فغالب معرفتنا للحقبة السابقة عليه معتمدة عليه اعتمادًا كليًا، فهو حلقة الوصل للعصور اللاحقة بالعصور الأولى. مثل ذلك العصر والكتب المؤلفة فيه، حتى ولو لم تكن جمعا، ورواية قيمة خاصة باعتبار العلماء فيه كانوا متواصلين مع مصادر لغوية ودينية لم تكن متاحة لأحد، فالعرب ما زالوا على سليقتهم الأولى، ومعارفهم القديمة كانت لا تزال حية في ذاكرة من أدرك من عاشها.
وهذا جعل الحديث عن هذا العصر لا يتصل به وحده على وجه الحقيقة، وإنما يتصل بطريقة وصول تلك العصور، إلينا وبتكوينها، وبالصورة التي استقرت في أذهاننا عنها، وهو ما يصبغ الحديث عن ذلك العصر بكثير من الحساسية، والإثارة لأنه يتصل اتصالًا كبيرًا بموثوقية الأصول التي بنيت عليها العلوم والمعارف العربية.
ولو أخذنا قضية «الشعر الجاهلي» عند طه حسين مثالًا، حين شكك بمصداقية العلماء في ذلك العصر، وزعم أن الرواة فيه هم الذين وضعوا الشعر العربي، ونسبوه إلى شعراء كانوا موجودين في حقب مختلفة، زاعمين أن هذا الشعر راجع إلى تلك الحقبة.
هذه القضية أخذت جدلًا كبيرًا في العصر الحديث، بلغ معها الجدل حد تكفير «طه حسين»، وإخراجه من الملة، ثم كتبت حولها كتب كثيرة، وهو ما يمثل الحساسية التي يجدها الدارسون من الحديث في هذا العصر.
ولا يزال الغموض عن عصر التدوين يلف كثيرًا من أخباره، فمصادرنا عنه معتمدة بالدرجة الأولى على الكتب التي ورثناها عن القدماء سواء كانت هذه الكتب قد ألفت في مراحل مبكرة منه، مثل كتاب سيبويه، ومالك، والشافعي، والجاحظ، أو كانت مؤلفة في زمن متأخر كالقرن السابع، وما تلاه، فالكتب التي اعتمد عليها أولئك في تأليف كتبهم غير موجودة، وليس هناك ما يدل على أنهم كتبوها معتمدين على الذاكرة، وإذا صح هذا في كتب القرن الثاني، فلا يصح في كتب القرون المتأخرة.
والذي يزيد الأمر صعوبة أن الحديث عن ضياع كتب التراث، وإحراقها حينًا، أو تمزيقها وإلقائها في النهر حينا آخر يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي، أمام ما يرد لدينا من أخبار، ومعلومات عن ذلك العصر، وعما كتب فيه من مؤلفات، بحجة أنها قد تكون أحرقت، أو ألقيت في النهر.
والحقيقة أننا بحاجة لأن نعيد النظر في كثير من التصورات التي ورثناها عن ذلك. أولها أن التدوين كان فيه، وأن كل ما كان لدى العلماء قبله كانت روايات شفوية، يحملها العلماء والرواة في صدورهم، وهي حقيقة تزعزعها الروايات الأخرى التي تقضي أن العرب عرفوا الكتابة في مرحلة متقدمة من حياتهم الحضارية، فقد جاءت مرويات كثيرة تدل على أن الكتابة كانت عادة لدى العرب قبل الإسلام، وأنهم كانوا يدونون ما يرونه محتاجًا لذلك.
وإذا غضضنا الطرف عن كتب اليهود التي كانت معروفة، ومنتشرة بين الناس في اليمن، ونجران ويثرب بالإضافة إلى الشام والعراق، وكان من بين أولئك اليهود عرب معروف بعضهم بأسمائهم، يقرأون كتب اليهود، والنصارى، وينظرون فيها، فإن قصة الصحيفة التي كتبتها قريش في مقاطعة النبي وآل بيته من بني هاشم في الشعب، وتعليقها في جوف الكعبة مشهورة معروفة، تناقلها أصحاب السير، مما يدل على أن كتابة المواثيق، والعهود، وتقييد الأمر المهم كان أمرًا معروفًا، وبهذا قضت «آية الدين»، في سورة البقرة، حين أمرت الناس بكتابة البيوع الآجلة، وتدوينها. وتسجيل «الديون»، وتقييدها خشية النسيان، يعد مرحلة متقدمة من الحضارة، ويعني فيما يعنيه أن الكتابة والقراءة معروفة منتشرة في حياة الناس العامة فضلًا عن أمورهم الخاصة.
والذي يؤكد أنهم يكتبون ما يرونه ذا قيمة عالية، أن النبي أمر الصحابة بكتابة القرآن، وتدوينه منذ الأيام الأولى من الوحي، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قد رأى كتب أهل الكتاب لدى الأحناف من قريش، ورغب أن يحافظ على القرآن مثلما يحافظون، فإن هذا يعني أن الأمر قد يطبق على كل أمر ذي بال كالشعر، والأخبار ونحوها عند من يهتم لتلك الأمور ويعنى بها.
هذه النتيجة هي التي توصل إليها الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه مصادر الشعر الجاهلي، وقد أورد شواهد كثيرة، تدل على تدوين الشعر منذ عصر ما قبل الإسلام، وهي مرويات يمكن أن يستأنس بها مع حقيقة أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام بصورة لا يكاد يشك فيها أحد.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store