Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

في المشمش!

أفقتُ على دخولِ فتاة مهذَّبةٍ متعلِّمةٍ إلى مكتبنا، تحمل ملفًّا أخضرَ في يدها، كأنَّهُ حجرٌ ثقيلٌ، وعندما مدَّت يدها لمصافحتي، قدَّمتِ الملفَ الأخضرَ، وضغطت عليَّ بقوَّةٍ وكأنَّما تتيقنُ من وجود يدي ل

A A
أفقتُ على دخولِ فتاة مهذَّبةٍ متعلِّمةٍ إلى مكتبنا، تحمل ملفًّا أخضرَ في يدها، كأنَّهُ حجرٌ ثقيلٌ، وعندما مدَّت يدها لمصافحتي، قدَّمتِ الملفَ الأخضرَ، وضغطت عليَّ بقوَّةٍ وكأنَّما تتيقنُ من وجود يدي لتحمل عنها ذلك الحجرَ الحياتي المرهق. كانت ابتسامتها بوَّابة عبور لروحها، حينما تشحذ الأمل، وتقاوم اليأس.. جلسنا متقابلين، قرأت في عيني فضول مجيئها، فقالت: لا شيء، فقط.. أبحثُ عن وظيفة..!
حاولتُ الخروجَ من ورطة الحاجة بالتعليق على أحد مقالاتي، فشكرتُ لها في سرِّي محاولتها الأنيقة في إذابة جليد اللقاء.. أربكني اندفاعها في الكلام.. صمتتْ لحظةً قبل أن تواصل همسها، وكأنَّها تحدِّث نفسها..! كانت إجابتي مفاجأة لها، لماذا تبحثين عن وظيفة؟! ما هذا الحلم الذى يُسمَّى وظيفة؟ ردَّت الفتاة بخشونة وغضب: لماذا تحرموني حقِّي في التوظيف.. بعد أنْ سافرتُ، وتغرَّبتُ، وتعلَّمتُ، أعودُ ثمَّ لا أجدُ وظيفةً، حرمتمونني الأمان الوظيفيّ، والطمأنينة اللازمة التي تُعتبر جزءًا من العمل.. لقد نسيتم المبدأ الإنسانيّ العظيم بأنْ توفِّروا لنا وظائف في وطني.. قلتُ بتهذيب بارد، وبلهجة شمعيَّة أردتها ماءً مثلَّجًا ينزل على فورتها وانفعالها: الوظيفة حقٌّ مطلقٌ، نحن أمام خيارين، بين الوظيفة والعمل الحر، أيُّهما أفضل.. لكن علينا المحاولة في العمل الحر، عندما خُلقت البشريَّة لم يكن هناك أي وظيفة في الحياة! ولم يكن هناك مكاتب توظيف! ولا قسم للموارد البشريَّة، أحسستُ بزفرةٍ طويلة تتخلَّل روحها، تنهَّدت بعمقٍ، ثُمَّ التفتتْ إليَّ قائلةً: تروِّجين للعمل الحر، وهو شعار فضفاض، مليء بالمغالطات والتناقضات.. أيّ أعمال حرَّة تتحدثين عنها؟! أين التسهيلات للمشروعات الصغيرة؟ أين القروض التي تساعد النساء لبدء أعمالهنَّ الصغيرة؟ قالتها، وكأنَّها تفقأُ جرحًا في روحي بسكينٍ صدئةٍ.. رحتُ أنصت إلى حديثها، بقيتُ مصغيةً وأنا أكتمُ دهشتي طوال اندفاعها الحماسيّ في الحديث، كان كلامها متماسكًا.. كنتُ أعرفُ أنَّ ما تقوله حتمًا يشتملُ على بعض الحقائق التي لمستُها بنفسي، وأنا أكتمُ دهشتي طوال اندفاعها الحماسيّ في الحديث، وقفت مغادرة المكان في حماس، وكأنَّها تناضل ضدَّ صمتي الأزليّ، قالت لي: أمنيتي أنْ أذهبَ إلى أيِّ بنكٍ يقرضني لبدء مشروعي.. وسكتتْ برهةً، وقالت -وهي تغادر المكان، وهي في غاية التوتر- لكن.. «في المشمش»..! ذلك المشمش كان ختم حوارنا!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store