Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

ما بعد التصنيف

كتب الصديق صالح بن سالم مقاله -السبت الماضي- في المجلة الثقافية بـ»الجزيرة» تحت عنوان (التصنيف مطلب وجودي).

A A
كتب الصديق صالح بن سالم مقاله -السبت الماضي- في المجلة الثقافية بـ»الجزيرة» تحت عنوان (التصنيف مطلب وجودي). صالح لا يرى الإشكال في التصنيف بوصفه تصنيفًا وإنما في تَبِعات التصنيف، ويؤكد على أن «التصنيف بذاته هو أمر إيجابي لكن تبعات هذا التصنيف هي التي تشوِّه فكرة التصنيف ذاتها... فالسلبية هنا ارتبطت في التصنيف من خارجه وليس من داخله، ارتبطت بما بعد التصنيف من أفعال سلطوية أثرت سلبًا عليه». أجدني أقف مع هذا الرأي؛ فالتصنيف لا يُعد أمرًا سلبيًّا متى كان منبثقًا من داخله وبقي في إطار مدلوله الطبيعي، ولم يتجاوزه إلى دِلالات ذات مقاصد تعييرية أو إقصائية أو تحريضية. بالتصنيف يتمايز البشرُ وسائرُ المخلوقات، ولذا نجد القرآن الكريم تخطى -في مسألةِ التصنيفِ- تصنيفَ البشرِ «شعوبًا وقبائلَ...» إلى تصنيف الجمادات «ومنَ الجبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سودٌ». وعليه فالتصنيف لا يُعد -من حيث المبدأ- نقيصةً، بل هو ضرورة؛ لكي لا تفقد الحياة أهم عناصرها الباعثة على الاستمرارية والترقِّي. بذا نتفق على أن الإشكال يكمن في مقاصد ما بعد التصنيف، التي تُتخذ -غالبًا- وسيلةً لهدفٍ غايتُهُ الوشايةُ والتحريضُ والاستبداد. يذهب صالح في مقاله إلى أن التصنيف تتناوشه سُلطتان جعلتاه منبوذًا في ثقافته وهما (السلطة السياسية والسلطة الدينية)، وليسمح لي في هذه المقاربة أن أضيف إليهما ما يمكن أن يمثل سلطة ثالثة -تعمل في الاتجاه نفسه للسلطتين السابقتين- وهي سلطة المثقفِين أو (السلطة الثقافية) بكل مكوناتها وأدواتها ووسائلها الإعلامية، هذه السلطة -الناعمة ظاهريًّا- لها ثقلها وسطوتها؛ فلطالما مارست ألوانًا من التصنيف والاستبداد بحق الآخر المختلف، ولذا يشدِّد أحمد بابانا العلوي على أن «المثقف ليس إيديولوجيًّا فحسب، بل محترف فكر... وأن أسوأ أنواع الاستبداد هو استبداد الأفكار». السلطة الثقافية -كغيرها- فيها المعتدلون والمغالون، ويبقى المغالون هم الأشد إيغالاً في ممارسة التصنيف واستثماره في ممارسة الإقصاء والوشاية بالآخر المختلف والتحريض عليه. ووسائل الإعلام تحفل بشواهد على إيغال حادٍّ لمغالِي السلطة الثقافية في المرحلة الأخطر (مرحلة ما بعد التصنيف)؛ إذ لا يمكن (لمنصف عاقل) أن ينكر وجود هذه التصنيفات (إرهابي، تكفيري، متطرف، متشدد، إقصائي، وهابي، إخواني، صحوي، حركي..إلخ)، ومعلوم أن هذه التصنيفات -ذات الغايات ما بعد التصنيفية- إنما أُنتِجت في مطبخ سلطة المثقفين، ولم تتوقف -في أحايين كثيرة- عند حدود التصنيف؛ وإنما تخطته للوشاية والاستعداء والإقصاء وصولاً للغايات القصوى.
والتاريخ يشهد على حالات إقصاء وتحريض مارسها مغالو السلطة الثقافية بحق المختلف معهم وآتت أُكُلَها. وبالمجمل، فأوَّلُ خطواتِ الإصلاحِ الاعترافُ بأن السلطات -دون استثناء- تمارس مرحلة (ما بعد التصنيف) لغاياتها المضمرة، مع الإيمان بتفاوتِ حجومِ الكُتَل السلطوية وقواها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store