Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

النار والجماجم.. هوية المدينة المنكوبة

كان يقطع المسافات كالريح، فوق طرق المدينة المنكوبة، توقَّف قليلاً ليلتقط أنفاسه، لم يكن يملك سوى جسدٍ واهنٍ، وأوراقٍ تثبت هويَّته.

A A
كان يقطع المسافات كالريح، فوق طرق المدينة المنكوبة، توقَّف قليلاً ليلتقط أنفاسه، لم يكن يملك سوى جسدٍ واهنٍ، وأوراقٍ تثبت هويَّته.
لم يكنْ يسمع سوى صوت أقدام، كان الصوت يقترب ويملأ المكان حوله كلَّما خطا.
أخذ ينادي بصوتٍ خافت» مَن هناك؟ لا أحدَ يُجيبُه! صوت الخطا يتسارع، ويزداد عددها؛ ليعجَّ المكان بها.
لم يكن في المكان سواه! أين قاطنوه؟ ومن أين تصدر كل تلك الأصوات؟!
انطلق خارجًا علَّه ينفذ بجلده، فربما كان المكان مسكونًا بالجنِّ!
الأنفاس متقطِّعة، والطرق كلّها ممزَّقة، وليتمكَّنَ من التنقُّل لم يكن أمامه إلاَّ القفز بين مسافة مسدودة، وزمن انتهى فصله الأخير داخل أسوار مدينة امتد فيها ظله، وصرير أبوابٍ يصفر من كل جانب.
ماذا لو نادى بأعلى صوته؟ جرَّب مرَّة، وأخرى.. هذه المرَّة اخترق هدير الأصوات سمعه!.
أين المفر؟ ودبيب الأقدام على الأرض، والأنفاس تقترب منه أكثر، وتلاحقه أينما حلّ!.
لم يكن أمامه إلاَّ التقوقع داخل ظلِّه، آملاً أن يكون المنفذ الآمن الذي يأخذه بعيدًا عن هذا الفراغ الموحش.
اقترب الليل.. الظل آخذٌ في التقلُّص حتى ضاق به ولفظه خارجه.
لم يبقَ له إلاَّ بقعة مشحونة برائحة رماد يخنق الأنفاس، وأعمدة دخان ارتفعت عاليًا لتعزل عنه الهواء.
حلَّ الليل.. الظلام يلفُّ المكان.. السماء تمطر، والبرد يشتد، وكأنهم اجتمعوا ليجهزوا عليه.
تحت الرماد بعضٌ من بقايا أخشاب، تحوَّلت إلى فحم، التقط واحدة منها، واتَّجه صوب المسافة المسدودة، ورسم على جدارها أبوابًا، ونوافذَ، وشخوصًا.. وظلَّ يحادثهم طوال الليل.
تملَّكه خليط من الخوف واليأس.. أدخل يديه في جيوب جاكيته علَّه يجد داخله ما يسدُّ به جوعه، لم يجد سوى هويَّته.. نظر إليها، وقلَّب أوراقها.. كان طريق الموت والحياة بين يديه على خطٍّ متوازٍ.. إمَّا الهوية، أو الحياة!
نظر إلى هويَّته مرَّة أخرى.. كان يظنُّ أنَّ الحياة ستكون الرابح الأكبر في تلك المعادلة.. مزَّق الأوراق والتهمها.
حاول أن يبتلعها، لكنَّها وقفت حائلاً بينه وبين النجاة.
بلا مقدِّمات اختفت الأصوات من المكان، إلاَّ من أنفاسه المتحشرجة داخل حنجرته، وبياض كسا عينيه، علم أنه سيغادر المكان.. تبسَّم وكأنَّه يقول: أخيرًا سأرحلُ من هنا إلى غير رجعةٍ.. إلى حيث لا مسافة، ولا زمن، ولا هويَّة.
ارتطم جسده النحيل على الأرض مخلِّفًا دويًّا هائلاً.
في مدينة الفناء تحت سماء تثلج نارًا، وفوق أرض تنبت الجماجم، كان الإنسان غنيمة الموت.
هل خدعته الهويَّة، أم انتزعت الرغبة في الحياة أنفاسه؟.
مرصد:
كان ملوك سيتيا القديمة يُقدِّرون حصة كلِّ فئةٍ من غنائم الحرب؛ حسب عدد الرؤوس التي يُقدِّمها الجنود لقاداتهم!
في سوريا، تمركزت القوى الروسيَّة والأمريكيَّة على ذات المضمار، من ذاك السباق، وأضحت أعداد الأرواح المحصودة مقياسًا للنصر، أو الخسارة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store