Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

لماذا يختنق الشاه ؟!

أصعب المواقف على مَن يمارسون لعبة الشطرنج، هي تلك التي يموت فيها الشاه مختنقًا، أي اللحظة التي يكتشف فيها اللاعب أن خصمه قد جعله بلا خيارات، وفي كل قواميس اللغة الإنجليزية بلا استثناء، يقول واضعوها

A A

أصعب المواقف على مَن يمارسون لعبة الشطرنج، هي تلك التي يموت فيها الشاه مختنقًا، أي اللحظة التي يكتشف فيها اللاعب أن خصمه قد جعله بلا خيارات، وفي كل قواميس اللغة الإنجليزية بلا استثناء، يقول واضعوها عن هذه الحالة “stalemate”، ويترجمونها بعبارة ”إحراج الشاه في الشطرنج”، أي عندما يؤدّي تحريك الشاه في أي مربع إلى موته، ويقتضي بلوغ تلك الحالة كمًّا رهيبًا من الأخطاء، تجعل اللاعب منزوع الخيارات في النهاية. تذكَّرتُ هذا التعبير الإنجليزي، وأنا أتابع موقف الرئيس الفلسطيني “أبو مازن” من المفاوضات المباشرة الراهنة، بعدما انتهت مهلة تجميد النشاط الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما تحرَّكت الجرافات والعزاقات الإسرائيلية، مستعينة بعمالة فلسطينية رخيصة، لا تملك خيارًا هي الأخرى للحصول على لقمة العيش سوى العمل في بناء مستوطنات للإسرائيليين، يكافح قادتهم من أجل وقف بنائها، فالحاصل أنه لا الرئيس الفلسطيني، ولا الفلسطينيون الذين يعيشون في ظل الاحتلال يملك خيارات، أو بدائل حقيقية للرد على القرار الإسرائيلي باستئناف الاستيطان، رغم الانخراط في مفاوضات مباشرة، برعاية أمريكية مع الجانب الفلسطيني، يُفترض أن هدفها هو تقرير مصير الأراضي المحتلة التي يقضمها الاستيطان الإسرائيلي غير مبالٍ لا بالمفاوضات، ولا بالمتفاوضين. الرئيس الفلسطيني الذي تعرّض لضغوط أمريكية ودولية وعربية غير مسبوقة، حملته إلى خوض مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين بلا مرجعية، ولا أجندة، ولا جدول زمني، باعتبار أنه ليس بالإمكان أفضل ممّا هو كائن، وأن الإبقاء على القضية في دائرة الاهتمام الدولي، ولو بمجرد الكلام أفضل من دخولها في غيابات النسيان، هذا الرئيس الفلسطيني نفسه يجد ذاته مضطرًا للتعامل مع أول أزمة تفرزها تلك المفاوضات، فهو أمام خيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن ينسحب من المفاوضات؛ لأن الأرض التي يتفاوض على استعادتها تتآكل تحت وطأة الاستيطان، وإمّا أن يواصل التفاوض فيما تواصل إسرائيل إقامة المستوطنات، وزرع المستوطنين فيها. الخيار الأول يبدو محببًا لدى الشارع العربي، ولدى بعض الفصائل الفلسطينية، لكن مَن يطرحونه، أو يطالبون (أبو مازن) بتبنِّيه، لا يقولون له ما هي الخيارات البديلة التي يمكن أن تساعده على استعادة الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية، والذين يحبّذون مواصلة التفاوض حتى مع استمرار الاستيطان الإسرائيلي، يقولون إن الانسحاب من المفاوضات لن يؤدّي إلى توقف الاستيطان، وأن العودة إلى التفاوض سوف تقتضي استهلاك المزيد من الوقت الذي يتم خلاله بناء المزيد من المستوطنات، وما دام الانسحاب من التفاوض لن يؤدّي إلى توقف الاستيطان، فلا بأس من الاستمرار في التفاوض لكسب بعض التعاطف الدولي مع المفاوض الفلسطيني، وتحميل الطرف الإسرائيلي مسؤولية فشل المفاوضات، وهذا ما يتبناه بعض الزملاء من دعاة “التعقّل”، دون أن يقولوا لنا ما هي القيمة الحقيقية للاستمرار في التفاوض من أجل استعادة السيادة على أرض يأكلها المستوطنون وتنهبها المستوطنات. لا أرى نفسي وسط هذا المأزق، ولا أزعم قدرتي على تقديم حل، أو إيجاد مخرج منه، فيما يوشك “الشاه” على الموت “مختنقًا” فوق رقعة الشطرنج الفلسطينية، لكنني أستطيع أن أمارس ترف التفكير والتنظير، لأنشغل بدلاً من ذلك بالبحث عن أسباب انعدام البدائل على الجانب العربي/ الفلسطيني، أو الإجابة عن السؤال.. وما الذي وصل بنا إلى تلك اللحظة المميتة، حيث تنعدم الخيارات أو البدائل أمامنا، ولا نجد مفرًّا سوى أن نقبل إمّا بالموت قهرًا على طاولة التفاوض، أو قتلاً في مناطق الاستيطان، أي أن الخيارات المتاحة الآن هي إمّا الموت فورًا، أو الموت بالتقسيط؟! العودة إلى جذور المأزق تقتضي البحث في خلفياته الفكرية والثقافية والسياسية، فأغلبنا تلاميذ، أو حتى خريجون من مدرسة “الجبر” الفلسفية، نتعامل مع كل ما يحيط بنا، باعتباره قضاءً يتعين علينا قبوله، وقدرًا لا يمكننا ردّه أو تغييره، أمّا مدرسة “الاختيار” فنتيجتها عندنا “لم ينجح أحد”، وهو ما انعكس بوضوح على طبيعة النظام الإقليمي العربي برمّته، خذ قاعدة “الإجماع” عند التصويت على قرارات جامعة الدول العربية مثلاً، حيث لا يملك النظام الإقليمي العربي -بسبب تلك القاعدة- المرونة المطلوبة لتبني قرارات، أو خيارات وسياسات ترى الأغلبية العربية أنها الخيار الأفضل، بل انظر إلى معظم أعضاء هذا النظام الإقليمي، وفتّش عن مساحات الاختيار، وفضاءات التأمّل، ومختبرات صناعة البدائل.. هل وجدتها؟!، لهذا كان طبيعيًّا أن تنعدم، أو تتلاشى الخيارات أمامنا في العديد من القضايا الحيوية التي يتعلّق بعضها حتى بصميم الوجود العربي ذاته. انعدام الخيارات أو البدائل أمام المفاوض العربي، قد يكون إحدى نتائج غياب التفاعل الداخلي في أغلب الأقطار العربية، أو ضعفه، أو تدني قدرته على التأثير، وقد يكون ناجمًا عن جهد مُنظَّم لدى بعض المؤسسات والجماعات لتقليص البدائل والخيارات، بما يضمن لتلك الجماعات أو المؤسسات الاحتفاظ بمواقعها في مناطق التأثير، أو مواقع صنع القرار. بعد أيام سوف تجتمع لجنة المتابعة العربية بالقاهرة للإجابة عن السؤال: هل يواصل الفلسطينيون التفاوض، رغم إصرار الإسرائيليين على استئناف بناء المستوطنات فوق الأراضي التي يجري التفاوض بشأنها، أم ينسحبون منها بما قد يقود إلى انسحاب للدور الأمريكي قد يطول أمده في هذا الملف؟! أحمد الله أنني لستُ في موقع المسؤولية، وليس مطلوبًا مني الإجابة عن هذا السؤال، إذ إن ميلي للتأصيل والبحث عن جذور المأزق الراهن قد يوردني مورد التهلكة، دون أن يقدم حلاً مقبولاً لدى نظام إقليمي عربي يُؤْثِر الاستقرار ولو فوق مسمار، حتى لو أدّى ذلك إلى حالة “stalemate” التي أشرت إليها في المقدمة. فأن تقول للشاه “كش” فوق رقعة الشطرنج، أهون ألف مرة من البحث عن خيار بديل في ملف بدا عديم البدائل، حين فضَّل القائمون عليه الموت في المحل تمامًا كما يموت الشاه المخنوق في لعبة الشطرنج.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store