Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

كي تقر عينها ولا تحزن

No Image

A A
بأمرٍ من الله جُعِل في أحشائها، يطعم مما تطعم ويشرب مما تشرب. يصحو إذا نامت، ويرفسها إذا جاعت. أثقل حِملها، أوهن عظمها، أجهد حركتها وجلوسها، ومشيها ومنامها، وركوعها وسجودها. كلما كبر زادها تعبًا، فزادت هي له حبًّا وتعلقًا. خرج إلى الدنيا، ووُضع بين يديها. ضمّته، قبّلته، أرضعته حتى أشبعته. لطالما أرهقها، أوجعها، سهرها وأيقظها.. كان يكبر أمام عينيها حتى أصبح قلبها رهينًا بين يديه. كانت تصحبه معها في كل مكان، يتشبث بذراعها، ويختبئ خلف ثيابها. تطعمه يداها وتحرسه عيناها. تجوع ويطعم هو، تعطش ويُسقى هو، تبرد ويُدفى هو، تمرض ويُشفى هو، تموت ويحيى هو.. احتوته، أعطته، أكرمته، نصحته، بالله عرّفته وفيه حبّبته ومنه خوّفته.

وبأمرٍ من الله كان ابنه، رُبِط اسمُه باسمِه، ونسبه بنسبه. وحينما اكتحلت عيناه برؤيته، سلب لُبّه وروحه وعقله. خبّأه من حينها في بؤرة عينيه، وأسكنه حجرات قلبه. يحصّنه كل صباحٍ ومساء. يخشى عليه حتى من الهواء. كان نوره في الظلم وسنده في المحن. كان يحميه من سموم الصيف وزمهرير الشتاء. ويلبي طلبه كلما سمع النداء. أعطاه، احتواه وبفيض حنانه كساه.

كبُر ذلك الصّغير وخرج من دار أبويه إلى دار الزوجية وارتبط برفيقة عمره. فأصبح فؤاد والديه فارغًا، افتقداه وفقداه. لم يفقدا وجوده بينهما فحسب، بل فقدا النُّسخة التي يعرفانها منه. فقدا حنانه وعطفه، حبه وتعلقه. فقدا مبادئه والخير الذي بداخله.

بعد كل الحب الذي سُكِب وتربَّى عليه، تغيَّر، تبدَّل، تحوَّل إلى شخصٍ آخر لا يُشبهه إلا في الاسم فقط. تحرر من قيودهما، من أفكارهما، من شخصيْهما، يحزنهما تارة، يزعجهما تارة، يرهقهما تارة ويطلبهما تارة.

أكبر، أم نسي، أم جحد؟.. أبعد أن ملأ الشّيب رأسيهما واستُنزِفت عافيتهما وخارت قواهما، يُحزنهما؟! يتكلّمان فلا ينصت، يشكوان فلا يسمع، ينصحان فلا يفقه، يطلبان فيتهرّب.. لِمَ، ولماذا، وإلى متى؟.. لا تكن شقاءهما بعد أن كانا سعادتك، وحزنهما بعد أن كانا فرحتك، وندمهما بعد أن كانا فخرك.. كفاهما حزنًا، كفاهما ألمًا، كفاهما بكاءً، وكفاهما قهرًا.. أرأيت التّجاعيد التي شكلتها يداك، والعينين التي أدماها فرقاك.. ارتمي في أحضانهما قبل فوات الأوان، متع ناظريك بهما، تأمل وجهيهما، ارسم الابتسامة على ثغريهما، واسكن الرضا قلبيْهما.. إذا أمروك فائتمر، وإذا نهوك فازدجر. أسعدهما كما أسعداك دهرا، أطعمهما واسقهما كما أشبعاك عمرا، انصت إليهما والزم قدميهما، فهناك السعادة، هناك الجنّة والنعيم والزيادة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة