Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

تركي حمدان أبو نواس الشعر العامي

No Image

A A
​* ما قبل البدء..

قال عبيدالله بن محمد بن عائشة (من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتامّ الأدب)، ففي شعر إبي نواس الكثير من التجاوزات الدينيَّة والأخلاقيَّة وهو شاعر الخمر بلا منازع، لكنه رغم كل ذلك قدَّم للشعر العربي مخزونًا لا يمكن تجاهله وتجربة ضخمة من الشعر البديع.

أبو نواس أحد أهم شعراء العربيَّة ورموزها الكبار والحديث عنه وعن تجربته قد يطول، هنا سأكتفي بالإشارة إلى أنَّ إقحام شعراء العربيَّة الكبار في نص شعري غالبًا ما يكون من باب الاستعراض الثقافي لا أكثر، وكذلك ما يحدث مع الأحداث التاريخيَّة وإسقاطها في داخل النصوص بشكل لا يمنح الشعر ولا شاعره سببًا لذلك.

* البدء..

هنا نص مختلف يعود بالقارئ إلى عصر إبي نواس بعيدًا عن الاستعراض الثقافي والإسقاط المذموم، نص مختلف لشاعر مختلف لا يكتب ليقول أنا هنا بل لنقول هنا شعر حقيقي صادم، في كل نص لـ تركي حمدان تجد أنَّ الشعر العظيم ما زال يعيش بيننا بكل تجلياته، سأحاول أن أسلط بعضًا من الضوء على مساحة كبيرة من الإبداع تبدأ من هناك من العصر العباسي ومن بغداد إلى ما لا نهاية من عمر الشعر الخالد.

* القراءة..

يقول أبو نواس لا تجزع وكنّ كما يلي:

أكرَم زباين.. جرجس الطيّب.. وسيّد حانته

زرها مساءً مثلما تُزار ربات الحلي

خفيه عن العذل اللعين المقرفه لَعانته

أبو نواس يحضر في بداية النص كما كان يحضر في زمنه في وسط الحانة ليقول شعرًا مظهره يتغنى بالخمر وروحه تقول كلامًا كثيرًا لا يستطيعه إلاَّ عمالقة الشعر وسادته!

ألق التحيَّة باسمًا على الوجوه الذبَّلي:

يسعد مساكم يا عَسَس منفاي يا هجّانته

واحرص على الساقي مثل ما قال أبوعليا علي

قلب الملك بعضه معه واغْلبه مع بطانته

هنا تسلسل درامي للحالة وتصوير الحال بعدسة (خيال) شاعر لا يصعب عليه تصوير مشهد سينمائي فاتن وهو الذي كتب في يوم من الأيام (شجر حي الحبيبة)، وأبدع في الكثير من نصوصه في خلق المشهد من العدم ليأخذك إلى روح النص وهدفه.

وحبذا لو تمنح السّمار كأسٍ أولي

وَلا تسل ما أصل هذا المرء ما ديانته

لا فرق في الحانات بين البلشفي والحنبلي

كل السهارى: واحد رفيعة مكانته

هنا ما ذهبت إليه من الحديث عن الانتقال بالقارئ إلى روح النص بعبقريَّة الشاعر وثقافة المبدع نحو الهدف المنشود وهو يذهب بنا إلى قول إبي نواس:

فإذا خلوت بشربها في مجلس

فاكفف لسانك عن عيوب الناس !

ثم اتكئ من بعد ذا واشرب عليها تنجلي

(من مُـرّة ما شفت شيٍ مسّها إلاَّ زانته)

فيها امتزاج النار بالأفراح جلّ المعتلي

كأنَّها [تفاحة النيروز أو رمانته]

أبو نواس هو الذي يقول ولذا لم يكن تركي حمدان بحاجة إلى أن يضع شطر البيت الشهير (من مرة ما شفت شي مسها إلاَّ زانته)، في داخل قوسين للدلالة على الاقتباس رغم إشارته لذلك في نهاية النص -من باب الأمانة- فما كتب قبل ذلك الشطر وبعده هو من وحي ذلك الشاعر الخالد وروحه.

اشرب وحدثني عن أخبار الزمان

المقبل

هو ما يزال الشعر يستغبي رغُم ذهانته؟!

هي ما تزال أصواتنا تشبه صفير البلبل

والعودُ قد دن دَنَ لي والليلُ ليلى دانته

هنا يتجلى تركي حمدان ليقول ما لا يقوله إلاَّ هو في إلتفاتة نحو الشعر، ليكون إسقاط تجربة أبي نواس في النص ليس فقط من باب أنَّ المشهد الذي كتب النص ليرسم ملامحه لا يليق بأحد كأبي نواس، ولكن ليأخذنا إلى عالم الشعر الخالد، إنَّ مواضيع الشعر قد تختلف لكن الشعر أكثر فطنة من أن ينحصر في تجربة أو قصيدة أو شاعر.

هو ما يزال التاجر المدثّر بْـ بشت الولي

يسجد للاستسقا مع أن ألما حبيس خزانته!

سحقًا أما في فهرس التاريخ عنواٍن خَلي

من خيل تاطى شاعٍر عيَّا يخون أمانته؟!

والمرء في زنزانته لا بد أن يغلي غلي

لو اسمحوا له بالغنا لو وسعوا زنزانته

هنا هدف القصيدة الأسمى وهو تقديم الرسالة التي يصعب على الشعر الذي استسلم لشاعره الذي خان أمانته ليكتب لمن يريد ما يريد، فالشعر هنا هو تمرد على السجن وعلى كل القيود التي وضعها السجان؛ ليمنع صوت الشعر من الوصول إلى الهدف المراد.

وأنا الحسن بن هاني اللي غبت حتى عن هلي

لجل الوطن شف كيف فجّوا مهجتي خوّانته

ما أريد خيره مير لا يطلق مغاليثه علي

ما أريد غيره لو يغرْف دماي باستكانته

هنا يشير إلى تجربة التمرد التي خاضها أبو نواس، ليقول ما يريد ليس بحثًا عن مال يمنح أو عطاء يزول بل؛ لينال حرية التغريد بعيدًا عن سهام النقد الكاذبة التي تريد إرضاء الرغبات العامة أو الخاصة في وجه الشعر الحر المتمرد.

يا أيها الساقي تنحّى فـ البكا قد عنّ لي

وأنهض نديمي اعط للساقي جزا ليانته

وأعذر بكائي ما بكى طرفي على فقد جْملي

عفوك عسى يفداك جرجس وأنت تفدا حانته!

إيه ابتسم وأسمع غنائي أو تكَرم غنّ لي

صوتًا كأطراف الندى وأحرص على إبانته:

«هل غادر الشعراءْ» واتبِع كل بيت بـ «يردلي»

أو غنّ «خيٌر للفتى من جُبنهِ جبّانته»

وأعلم نديمي إنَّما خير الغناء الموصلي

وسيّد النُّدمان من لا حاد عن رزانته

هنا خاتمة تليق بالنص والشاعر وكل مراحل الشعر العظيم، غناء لا يليق إلاَّ بتركي حمدان، ولا يليق إلاَّ بنص عظيم، ولا يليق إلاَّ بمن يريد أن يتغنى بشعر يأخذك إلى عالم الشعر الخالد..

ذلك الشعر الذي بدأ لكي لا ينتهي لا أن يتحول إلى مجرد غناء لا روح فيه إلاَّ موسيقاه.

* الخاتمة..

كل ما كتب أعلاه (نثرًا) مجرد أضواء بسيطة أحاول أن أنثرها في جنبات نص خالد كُتب ليحيا ويحيي عالم الشعر من جديد، وبقي أن أقول في داخل هذا النص بعيدًا عن روحه وهدفه لغة أخاذة فاتنة تأخذ بيد الشعر الشعبي ليقف بجانب الشعر الفصيح كتفًا بكتف، ليقول: أنا هنا، أنا شعر، يستحق الدراسة، والحفظ، والخلود.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store