Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

أوهام الأخوَّة العربية

A A
السائد في الذهنية العربية أن الإنسان العربي لديه من قِيم المروءة والشهامة والوفاء ما ليس لدى غيره من الأجناس البشرية الأخرى، وأنه متى قطع على نفسه عهدًا أو أعطى وعدًا فإنه لا محالة موفٍ به مهما كانت العقبات والعواقب. غير أن السياسة بوجوهها المتلونة ونواياها المبطَّنة في عصرنا الحاضر جعلت العربي يتزحزح عن مبادئه ومُثُله التي عُرف بها، وصنعت منه إنسانًا لا يعبأ بعهد ولا وعد، ولم يعد يستميله ويحركه سوى المال ومصالحه الخاصة حتى ولو كانت على حساب قيم الأخوة والجوار. ما ينطبق على الإنسان العربي بصفته الفردية ينطبق أيضًا -بكل حمولاته- على بعض الدول العربية التي تغدو صورة مكبرة للإنسان العربي في تخليه عن تلك القيم والمبادئ والمُثُل. نؤمن جيدًا أن لكل دولة سياستها، ولها رؤيتها، ولها مصالحها التي تسعى جاهدة لتحقيقها، ولكن تبقى هناك خطوط ينبغي أن تُراعى وتؤخذ في الحسبان في مسألة العلاقة بين الدول العربية بوصفها دولاً لها مرجعيتها الدينية الواحدة، ولغتها الخالدة، وعدوها المشترك، وتاريخها العميق، وجغرافيتها المتداخلة. ومع كل هذه الروابط المتينة والأرضية الصلبة إلا أننا نجد أن العلاقات العربية أوهن من بيت العنكبوت بمعنييه الحسي والمعنوي. ومع أن عقلاء العرب يسعون دائمًا للمِّ الشمل العربي وتوحيد الصف إلا أن سمة الخروج عن المألوف تبقى حاضرة لدى أكثر الدول العربية. هناك قضية أخرى لم تنفك تلازم معظم الدول العربية وتتسبب في نقض عُرى الأخوَّة بينها وهي الارتماء في حضن العدو رَغَبًا أو رَهَبًا أو مكيدة بشقيقاتها، فلم نكد ننتهي من اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني التي أحدثت شرخًا كبيرًا في جدار العلاقات العربية حتى تقاطرت عدة دول عربية لتصطف مع هذه المعاهدة لتزيد الشرخ اتساعًا، مع أن العدو الصهيوني يجثم على ثرى الشقيقة فلسطين ويقتِّل ويشرِّد أهلها. كذلك وما أن قامت الثورة الخمينية في إيران وتكشفت نواياها وناصبت العرب العداء حتى رأينا بعض الدول العربية ترتمي في أحضانها، ولم تتوقف حالة الارتماء تلك على بعض دول الجوار بل شملت دولاً عربية مهمة ووصلت لعدة دول خليجية، مع أن إيران هذه لا تزال حتى اليوم تحتل دولة عربية، ويجوس جيشها خلال دولة عربية، وتسيطر مليشياتها وأحزابها على مفاصل دولة عربية، ويُحكم جيشها احتلاله لجزر دولة عربية. لم يتوقف الأمر على مسألة الارتماء في حضن العدو (الصهيوني-الإيراني) بل وصل لمسألة العلاقات العربية العربية، فالعلاقة بين أكثر الدول العربية هشة، وبعضها على صفيح ساخن، وبعض الدول تكيد للأخرى في جنح الظلام ووضح النهار، وبعضها تنقضُ مع عتبة الباب كلَّ اتفاق ومعاهدة، وبعضها تشاركك ميدان الحدث ولها مآربها الأخرى المتمثلة في تشطير القضية، وبعضها تجلب عليك بخيلها ورجلها لأدنى تقصير، وبعضها ما لم توافقها على صلفها فسوف تمارس هواياتها في البلبلة والاصطفاف مع العدو، وبعضها كالعضو الغريب في الجسد العربي، وبعضها يصوت ضد كل قرار عربي يكبح الأطماع الإيرانية، وبعضها يصوت ضد كل قرار أممي يخدم المصلحة العربية.
لا أرى حلاًّ لهذه الممارسات الصبيانية من البعض، والمراوغات الماكرة من البعض الآخر إلا أن تلتفت كل دولة عربية لنفسها وتشتغل على النهوض بشعبها حتى تصبح لها كلمتها وهيبتها في المجتمع الدولي بدلاً من مطاردة هذه الأخوَّة التي لم تثمر إلا الأوهام، أو تتفق الدول العربية جميعها على تنصيب إحداهن لتكون هي أختهم الكبرى ومرجعيتهم النهائية، بدلاً من مطاردة أوهام الأُخوة العربية المتخيَّلة، وأحلامها الفضفاضة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store