Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

في المسجد.. وفي غير المسجد!

A A
تحدَّثت في مقالٍ سابق عن رمضان الذي يأتي كفرصةٍ نموذجية يُظهر فيها المجتمع وجهه الحقيقي فيما يخص سلوكياته العامة من حرصٍ على الخير، وعلى التكافل الاجتماعي، وتساءلتُ في خاتمة المقال عن السبب الذي يمنع تعميم هذه التجربة على سائر أيام وشهور العام.

أعود هنا لأطرح السؤال نفسه حول هذه الظاهرة العجيبة بالفعل، خصوصًا وقد أصبحت صفة اجتماعية عامة، في رمضان وفي غيره؛ أعني أن هذا الحرص العام على الأخلاقيات التي ترتبط بالعبادات الدينية مثلًا، أو السلوك العام لأبناء المجتمع داخل أروقة المساجد يُغري النفس بأن تتفاءل بعكس هذه الإيجابية على السلوك الاجتماعي العام خارج المصليات ودور العبادة. وهو أمرٌ حرص عليه الشرع حرصه على العبادات كما نعلم؛ أعني أن القرآن والسنة مليئتان بالحثِّ على الأخلاقيات الإيجابية للمجتمع من صدقٍ وكرمِ نفس وصبر وأناة وحلم وغيرها. وهذه صفات نلمسها كثيرًا في تجمُّعَات العبادة كالصلاة والمحاضرات الوعظية وغيرها، لكنها لا تمتد لتشمل باقي أنشطة الحياة، وهذا مدار السؤال والعجب!

تُعلّمنا الصلاة مثلًا الصبر؛ الصبر في الانتظار، الصبر على تزاحم المصلين، والصبر على نزعات النفس الأمارة بالسوء، لكن هذا المُصلِّي الصابر ينزع عباءة الصبر عند خروجه من المسجد، ليستحيل قنبلة سريعة الاشتعال عند أقرب فرصة، في إشارة المرور، أو في انتظار وجبة في مطعم، أو في صالة خدمات حكومية. وقد رصدت بعض المواقع الإعلامية ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الشجارات خلال شهر رمضان!

تُمثِّل الصلاة مِثالًا مُشرِّفاً للاصطفاف والتنظيم واحترام حركة المرور، حتى إن معظم المصلين يضطرون إلى الانتظار أكثر بعد نهاية الصلاة، أو اختيار طرق بعيدة كي لا يقطعوا صلاة أحدهم فقط، لأن هذا مرتبط بتوجيه نبوي كريم، لكننا نجد كثيرًا منهم لا يعطي بالًا ولا أهمية لقوانين المرور العامة، ولا يحترم حقوق الآخرين في الطريق: يعكس الطريق، ويقطع الإشارات الحمراء، ويتجاوز السرعة المحددة، ويُعرِّض نفسه والناس للموت.. فكيف يكون هذا؟!

وأين تذهب تلك الصورة المشرقة من التكافل الاجتماعي والتحاث على الخير حين يرتبط الأمر بالصالح العام، وبالمسؤولية الاجتماعية خارج نطاق المسجد والوعظ الديني، أعتقد أن هذه مشكلة واضحة في التصوُّر الاجتماعي لمفهوم القانون، مهما كان مصدره. ويرى البعض أن هذه الازدواجية تنبع من نزعة ذهنية لدى المجتمع في الفصل بين الدين وباقي مناحي الحياة، أي أن الشعور بأن كل ما له علاقة بالدين (من عبادات) هو المُقدَّس الذي يجب الحرص عليه ومراعاته، أما باقي شؤون الحياة فهي أمور دنيوية لا تحمل الأهمية ذاتها، وهذا منزع غريب طبعًا، إذا ما نظرنا إلى اهتمام الشرع بتنظيم مناحي الحياة وبالأخلاقيات العامة اهتمامه بالعبادات والطاعات... فيما يردُّ آخرون هذه الظاهرة إلى عدم تشرب المجتمع لمفهوميْ المدنية والمواطنة الحديثين، وهو ما يؤدي إلى ضبابية في فهم القيم التي تندرج تحتهما، خصوصًا تلك التي ترتبط بالحقوق والواجبات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store