Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

العيد ودلالة اللبس الجديد

A A
يرتبط عيد الفطر، كما يرتبط عيد الأضحى، بالعبادات التشريعية الكبرى، الصوم والحج، فالعيدان يعقبان أداء فريضة عظيمة تستلزم الانخراط في فعل تعبُّدي مُكثَّف، ثم يأتي العيد بعده معلنًا انتهاء فترة التعبُّد والخروج منها. يظهر العيد وكأنه احتفال بالتخرُّج من برنامج يشترط تغيير النمط الحياتي المعتاد، والدخول في ممارسة مخالفة، تلبيةً لأمر الله تعالى.. يخرج المسلم من أيام الصيام وأيام الحج إلى العيد كمُؤشِّر ليس فقط على استحقاقه للفرحة والحبور، ولكن كمُؤشِّر على حُسن تأهله وتمكُّنه من تحسين قدراته عما كانت عليه سابقًا.

من هنا يمكننا تأمُّل دلالة الحرص المتوارث على اقتناء حُلة جديدة للاحتفال بها في العيد.. من طقوس العيد التي تحافظ عليها الشعوب المسلمة أن العيد هو لبس الجديد، أو أن لا عيد لمن لم يلبس الجديد.

وكما أن من طقوس حفلات التخرج العلمية لبس زي يُدلِّل على الاستحقاق والتأهل، فإن اللبس الجديد هو علامة، لا تكتفي بمصاحبة مظاهر الفرح والبهجة الخارجية في العيد، ولكنها علامة مصاحبة للتجديد، الذي حدث في الداخل العميق، وكأن لبس القديم في يوم الخروج لا يناسب التغيير التجديدي الذي طرأ على النفس من الداخل.

لابد أن صوم رمضان- إضافةً إلى الغرض التعبُّدي الرباني-، له تأثير تدريبي للنفس البشرية، ولو أننا تأملنا ما الذي نكتسبه من مهارات خلال هذا الشهر لحافظنا على مستوى اللياقة، التي وصلنا إليها، ولطبقناها على مدار العام، حتى نعود للانخراط في شهر آخر يزيد من صقل تلك المهارات ويرفع من كفاءتها، عامًا بعد عام.

من خلال الانصياع لأمر الله تعالى بأن نصوم، نجد أن النفس تتعلَّم الطاعة والخضوع لأمر خالقها، كما أنَّها تتدرَّب على كبح الشهوات والسيطرة على نوازع النفس، وعلى الصبر والاحتمال، وتُنمِّي قدراتها على تحديد الهدف، وتكثيف الجهود، والتركيز على حسن الأداء، والحرص على تفادي المزالق من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة.

في رمضان، تصبح النفس البشرية تحت سيطرة الصائم الكاملة فتحول إرادته بينها وبين قطرة الماء، إرادة صلبة لا تخترقها رغبة ولا غواية مهما اشتدت.. حين ننوي الصيام، يصبح منع النفس من نيل مرادها أول خطوات تطويعها ومحاصرتها، بمجرد النية تصبح للصائم اليد العليا على أهواء نفسه وميولها.. في داخل إطار زمني دقيق ومحدد، يكثف الصائم عباداته ليساند صيامه بالصلوات المفروضة والتطوعية، وبتلاوة القرآن، وبكثرة التسبيح والدعاء، وبأداء العمرة، وبالاعتكاف، وبالصدقات والزكوات.. كل الأفعال تصب بشكلٍ منتظم في وعاءٍ واحد وتنطلق في مسارٍ واحد.. كل هذا الانضباط الفردي يتم داخل محيط جماعي يتشارك في الجوع وفي تناول الطعام وفي الصلوات، مما يُعزِّز معنى التضامن المجتمعي عند الفرد.

هل يمكننا بعد كل هذا الجهد المُكثَّف أن ننظر إلى العيد كنقطة انطلاق تعود بنا إلى ما كُنَّا عليه تمامًا قبل رمضان؟ هل نعتبر رمضان فرصة لكسب الجزاء الأخروي وللاستزادة من الحسنات في موازين الأعمال يوم الحساب؟ هل نعمل بكل هذه الطاقة لترويض النفس حتى تصبح أكثر صلابة في نهاية الشهر ثم نتركها تتراخى لمدة عام، ثم نعود لنخضعها لنفس المستوى من الترويض، دون أن نستفيد من توالي الفترات، التي ترفع من كفاءة نفوسنا بشكل تراكمي؟

يأتي العيد حاملًا بشارة النجاح في تخطي حدود الذات السابقة لرمضان، ذات تم ترويضها فأثبتت قدرتها على الارتقاء وعلى التحكُّم في أهوائها. هذه الذات التي تطوَّرت هي ذات جديدة مختلفة عن تلك، التي دخلت الشهر الكريم، وبها يرتبط اللبس الجديد لا بالمظهر الخارجي والتفاخر الأجوف: فاللبس الجديد هو أردية التجديد الداخلية، أردية قابلة للتجديد السنوي ورفع مستوى الكفاءة بشكل مطرد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store