Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

تراجيديا مجْتَمع اللاّ مَسْرح

فالعرب مدعوون في عمق التراجيدية التي يعيشونها، لطرح قضاياهم داخلياً فنياً بمزيد من التبصر في المستقبل، قبل التفكير في الانغماس العالمي. يشكل المسرح ههنا فضاء خصباً حقيقياً لتجسيد هذه التراجيديا المرتسمة في الآفاق القريبة.

A A
تطلق كلمة اللا مسرح لتوصيف مجتمع لا يدخل المسرح في صلب اهتماماته الثقافية والفكرية والحضارية. منشغل بأشياء أخرى هي أقرب إلى الاستهلاك منها إلى المعرفة والفن بمعناه الذي استقر عليه اليوم. والمجتمع العربي يتصف للأسف بهذه الصفة التي لا تخدمه ولا تخدم مستقبله. يسبقنا السؤال الذي لا يمكن تفاديه: كيف يتلقى الإنسان العربي المجرد من وسائل المعرفية والحياتية الأساسية: الثقافة الإنسانية، النقد والحرية، إبداعه ومسرحه؟ هل يتلقاه بالعقل المتفتح والمحب له أم بتصورات الحامل لسلسلة من الأفكار المسبقة؟. إن التلقي المسرحي في غاية الصعوبة إذ يظل مرتبطاً ليس فقط بالذوق الفردي أو الانطباعي الطارئ، ولكن أيضاً بالمكون الثقافي الذي تتحدد من خلاله آليات الاستقبال المعقدة. فالتلقي ثقافة وخبرة مخزنة وليس مجرد انطباعات عامة. لقد غير المسرح النظر إلى المحيط من خلال وسائطه حتى في لحظة قلقها وعدم استقرارها. زرع الحياة في مجتمع ياباني خرج منكسراً من الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في أفقه الأكثر شعبية الذي تمتزج فيه الموسيقى بالأداء المسرحي. فقد أظهرت الأعمال المسرحية ذات النزوع الجديد عند الشخصية اليابانية المعاصرة التي تواجه مصيرها الإنساني غير المعزول عن بقية المصائر البشرية الأخرى. أصبح الياباني في المسرح الجديد أولاً وأخيراً ابن هذا الزمن المتناقض مثله مثل بقية سكان المعمورة. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن المسرح الأمريكي الذي منحنا صوراً مخالفة عن أمريكا المتداولة، وحزمة من الضوء لم نكن لنراها لولا هذا المسرح المتمايز الذي خلق في الأوساط الثقافية الهامشية، من مسرح اللاتينو، إلى مسرح السود إلى مسرح القوميات التي تشكل جزءاً من بنية المجتمع الأمريكي. فالمسرح العالمي في رحلة الحياة المتناقضة والصعبة هو الجسر العظيم الذي سوّق نظرة مخالفة جذرياً نحو المشاهدين والمتتبعين للنشاط الحياتي، من وراء الحدود. ومن يتأمل الأعمال المسرحية العربية المنجزة في السنوات الأخيرة والأسماء التي فرضت نفسها على الساحة الثقافية، يلاحظ أنها جعلت من انتكاسات المجتمع العربي مادتها الأساسية ومن الوسائل التقنية العالمية بعضاً من رهاناتها التواصلية. لم تصور العربي للتشفي في شقائه ولكن لفتح العيون على المخاطر الآنية والمستقبلية التي تتهدده، تلك التي يدركها، وتلك التي تظل في الخفاء. نحن في العالم العربي الحلقة الأضعف عالمياً في العلاقة بهذه المعطيات الموضوعية. في مصائرنا ما يتعلق بإراداتنا ومسؤولين عليه كلياً، وفيه ما هو إنساني ونشترك فيه مع الآخرين إذ نحتاج إلى أن نجد الحلول الجماعية التي تتجاوز الإرادات الفردية المعزولة. أوروبا تعرف جيداً صعوبة ما هي مقدمة عليه بتوحدها الاقتصادي والثقافي، بل بتعقده ومخاطره مع الصعود الأمريكي المتطرف في كل شيء، لكنها تعرف أيضاً أن الوحدة ليست نزوة عاطفية تحدث على المخمل والزهور، ولكنها رؤية تستبق الأمراض القادمة والانفجارات الإثنية والعرقية واللغوية والحدودية المقدمة عليها، إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه: بلجيكا المهددة بالانفجار؟ سويسرا؟ روسيا؟ إضافة إلى الصين؟ كندا وغيرها؟ الدرس الإسباني سيظل ماثلاً في الأذهان.
عالم التشظي والتمزقات الكبرى لا يمس الدول الضعيفة فقط اقتصادياً وبنيوياً. لهذا فالعرب مدعوون في عمق التراجيدية التي يعيشونها، لطرح قضاياهم داخلياً فنياً بمزيد من التبصر في المستقبل، قبل التفكير في الانغماس العالمي. يشكل المسرح ههنا فضاء خصباً حقيقياً لتجسيد هذه التراجيديا المرتسمة في الآفاق القريبة. يحتاجون فقط إلى قليل من الانفتاح الثقافي الذي ينقل المجتمع العربي من اللامسرح إلى مجتمع المسرح، أي مجتمع يدرك قدر الحاجات للخروج من الكماشة التي وُضِع فيها عبر عشرات السنين. طبعاً، في ظل هذه السياقات المعقدة، فالمسرح ليس سيارة إطفاء للمعضلات المعاشة لأنه في صلب التراجيدية المرة والقاسية، يعيشها ليعيد إنتاجها من خلال آلياته العميقة وليس من خلال الخطاب السياسي والإيديولوجي الجاهزين.المسرح لا يحارب اليأس بتفاؤل كاذب، ولكن بفتح الأبواب قبل أن تنغلق نهائيا ويعلوها الصدأ الكبير. مجتمع المسرح يملك القدرة على الخلق الإيقوني للأفراد من ممثلين ومخرجين يتحولون إلى علامة رمزية تجلب الجمهور نحو القاعات؟ وهذا ليس ترفا، لأن اللحظة الإيقونية ضرورية في الفنون عموماً وفي المسرح بالخصوص، لأنها تحافظ على الجمهور دائماً مرتبطاً بالرمز الذي يمثله ويرى نفسه من خلاله. مجتمع اللامسرح هو مجتمع الموت البطيء واللافن والفراغ المفجع.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store