Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

قليلاً من الشك...!

هل صدقّت على الفور قصة الزئبق الأحمر في ماكينات "سنجر"؟ هل قاطعت "الفيمتو" لأنه يؤدي إلى التسمم، وحلاوة الـ"مينتوس" لأنها تسبب انفجارات في المعدة، و"الأندومي" لأنها مسرطنة؟ وليت كل الشائعات جاءت على هذه الدرجة البسيطة من الأذى، لكن الإشاعة حين تكبر لتسحق بلداً وشعباً، تصبح سلاحاً مدمراً.

A A
تصلنا رسالة على الواتس آب، تحوي خبراً مثيراً، فهل نسرع بنسخها وبتوزيعها في قوائم أصدقائنا، أم نتروى بعض الشيء ونفكر إن كنا ننقل صدقاً أم بهتاناً؟ تطالعنا تغريدة على تويتر تشعرنا أننا وقعنا على نبأ عجيب، هل نعيد التغريد بها حتى ينبهر بنا متابعونا، أم نتمهل ونسأل أنفسنا إن كنا قد صدقنا حقاً محتواها أولاً قبل أن نتبرع بنشرها؟، هذه هي الحال مع وسائل هذا الوقت من العصر الحديث، فماذا كنا نفعل سابقاً مع كل الأحاديث المتضخمة التي تصلنا عن طريق الهاتف، أو يهمس لنا بها الآخرون؟ إن كانت الوسائل حديثة، فهل سلوكنا قديم؟

مرحلة النقل هي التي تـُفعّل كلمة «شائعة»، أما قبل النقل فهي مجرد فرية فارغة. اللغة العربية تعامل الفرية على أنها لا شيء، فراغ لا يرقى إلى وجود يستحق التسمية، فكلمة «شائعة» لا تنم عن كنه الخبر المزوّر، هي فقط تصف عملية ذيوعه. كلمة «شائعة» لا يمكن إلا شرحها، فهي خبر غير مؤكد، وغير ثابت، ولا مصدر موثوق له، يتناقله الناس دون برهان أو تحقـق. لكن كلمة «شائعة» لا تشمل كل هذه التفاصيل، هي تدل فقط على مرحلة الشيوع والتداول المشترك. لذلك فإن تحقـُق وجود الشائعات مرهون بنا، إن نقلناها عاشت وانتعشت واستفحلت، وإن عطلناها ماتت في مهدها، فراغ بلا اسم.

فكرة التعطيل مرتبطة بنا، ليس فقط بما نختار أن نفعله بالخبر الذي نتلقاه، ولكن بتأمل ذلك الخبر، وبعرضه على عقولنا، وبتلمس مدى مصداقيته ومدى قربه من الحقيقة. إن ساورنا الشك فذاك برهان على تحرك العقل نحو التحليل النقدي والربط المنطقي. هذا أقصى ما يطمح إليه الإنسان ليكون إنساناً سوياً، أن يصبح قادراً على استخدام عقله بدلاً من تحويله إلى قطعة من الإسفنج الساذج الذي يكتفي بامتصاص كل ما يُـلقى إليه.

هل صدّقت على الفور قصة الزئبق الأحمر في ماكينات «سنجر»؟ هل قاطعت «الفيمتو» لأنه يؤدي إلى التسمم، وحلاوة الـ»مينتوس» لأنها تسبب انفجارات في المعدة، و»الأندومي» لأنها مسرطنة؟ وليت كل الشائعات جاءت على هذه الدرجة البسيطة من الأذى، لكن الشائعة حين تكبر لتسحق بلداً وشعباً، تصبح سلاحاً مدمراً

. ألم تبدأ الحرب الأمريكية على العراق بإشاعة خبر عن امتلاكها أسلحة الدمار الشامل المزعومة؟ ألا تُسخّر قناة الجزيرة كل ترسانتها الإعلامية المتطورة للتضليل، ولقلب الحقائق، ولزعزعة الثقة، وإثارة البلبلة والاضطرابات، ونشر الإرجاف بين الناس؟

إن نشر الشائعات لعبة تحاربية قديمة، وأساليبها كثيرة ومتنوعة، وأنت قد تستسهل البسيط منها والغبي، لكنها تدربك على تقبل الأكاذيب على أنها حقائق، تربك موازين التفريق في مخك بين الأسود والأبيض، تمرّن عقلك على تصديق كل ما يقال. تظل الشائعات تعاود الظهور كلما اختفت لتصبح راسخة، فتكرار الكذب يحوله إلى حقيقة، وتظل تعطينا ما يروق لنا من الأخبار بناء على قاعدة: إن الناس مستعدون لتصديق الكذب، مهما بدا زيفه، إذا ما صادف هواهم، وتكذيب الصدق، مهما بلغ وضوحه، إذا ما خالف هواهم، وتظل تـُعوّدنا على التمسّك بالرواية الأولى، ورفض كل دحض ونفي لها على أنه رواية مفتعلة على رواية أصلية.

في المرة القادمة، حين تصلنا تلك الرسالة المثيرة، لنحرّك غريزة الشك التي بداخلنا، لنتساءل ونتحقق قبل أن نضغط الزر فنكون مروّجين للأكاذيب. حصننا المنيع لعدم سقوطنا في شباك الخداع هو أن نمنع الكذب من الانتشار، أن نجعل الرسالة تقف عندنا مهما كانت جودتها عالية، وحبكها مُحكماً: لنفكّر، ولنبحث، ونتذكر: «وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store