Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

المملكة والركن الخامس

A A
الحمدُ للهِ الذي أَخْبَرَ في كتابِهِ عَنْ شرفِ مَكَّةَ فقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا).

في هذه الأيام المباركة ها نحنُ أبناء -بلاد الحرمين -نلتقي مرةً أُخرى على شَرَفِ خِدْمةِ الحَجِيجِ، ونَتَوَافَى على بركةِ القيامِ بشؤونِهم، وتيسيرِ أدائِهِم لمناسِكِهِم، ويالَهُ مِنْ شرفٍ تَتَقَاصَرُ دونَهُ الأعناقُ، وتَتَصَاغَرُ لأجلِهِ الجُهُودُ. فهنيئاً لبلادنا -بلاد الحرمين- بهذا الشرف الذي خصها به الله عز وجل من بين سائر الأمم، فللمسلم أن يؤدي الأربعة أركان الأولى من أركان الإسلام في أي مكان على وجه الكرة الأرضية إلا الخامس (الحج) فلا يؤدَى إلَّا هنا في مكة المكرمة في -بلاد الحرمين- في المملكة العربية السعودية.

يأتي الحاجُّ مِنْ أقصى الأرضِ وقَدْ مَلَأَ قلبَهُ حُبُّ مَكَّةَ وأَهْلِها، يأتي وأشواقُهُ تُنَازعُهُ إلى الكعبةِ الشَّريفةِ، وأفراحُهُ تَسْبَحُ بروحِهِ إلى أروقةِ الحرمِ، وأحلامُهُ تُصَوِّرُ له حلاوةَ (المَقَام)، وجَلالةَ (المُلتَزَمِ)، وجمال (الحِجْر).

ولربُّما كان الواحدُ مِنْ هؤلاءِ قد جَمَع حَصِيلةَ عُمُرِهِ، واعْتَصَرَ سِنِيْ حَيَاتِهِ، ليَجِدَ مِنَ المالِ ما يبلُغُ به هذهِ الديارَ المقدَّسةَ، فإذا هو كأنّما حِيْزَتْ له الدُّنيا بحذافيرِها.

هؤلاءِ الحجيجُ هم ضَيْوفُ الرحمنِ، ووَفْودُ الكريمِ المنّانِ، وأقلُّ حقِّهِم علينا -أهلَ هذه البلاد المباركة -أن نتلقَّاهم بالترحابِ، وأنْ نكافئَ شوقَهُم بشوقٍ، ومحبَّتهم بمحبةٍ، ثم أَنْ نبذُلَ لهم ما نستطيعُ خِدْمةً وعوناً، ونهبَهم غايةَ ما نقدِرُ عليه بذلاً وجهداً.

ومُذْ تَقَاسَمَ بنو قُصيٍّ خِدْمَةَ الحجيج فكانَ لبني عبدِ مَنَافٍ السِّقايةُ، ولبني عبدِ الدارِ السِّدَانةُ، ولبني عبدِ العُزَّى رِفَادَةُ منى وضيافةُ أهلِها، منذُ ذلكَ الحينِ وشَرَفُ أهلِ مكةَ خدمةُ الحجيج، ومِيْسَمُ فخارِهِمْ القيامُ على شؤونهم.

إنَّ الحجَّ هو أضخمُ اجتماعٍ بشريٍّ دعا إليه ربُّ العزة والجلالة، وهو الملتقى الإنسانيُّ الوحيدُ الذي يترفَّعُ عن الأهواءِ ويرتقي بالإنسانِ من العناصرِ الدنيويَّةِ إلى القيمِ والمبادئِ الإنسانيةِ.

هذه النظرةُ القُدْسيةُ إلى الحجِّ تحملُ العاملين في مجالِهِ على أن يترفَّعوا أيضاً عن الأهواء، ويَرْتَقُوا من العناصرِ الدنيويَّةِ إلى القيمِ والمبادئِ الإنسانيةِ، صحيحٌ أنَّ الله يقول: (ليْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، ولكنَّ الغرض الأعظمَ هو ما ذكره الله: (وتزوَّدوا فإنَّ خير الزادِ التقوى). وإنَّنا على شرفِ هذه التقوى نلتقي كل عام.

لقد كان من حُسنِ توفيق الله لهذه البلادِ أن شرَّفها بواجبِ السِّدانةِ والسِّقاية والرفادةِ، فجمع لها كل ما يتعلَّقُ بخدمةِ ضيوفِ الرحمنِ، فاحتملتْ ذلك عن حُبٍّ واقتدارٍ، ثم لم ترضَ بأن تكونَ فيه تبعاً لغيرِها، مُقلِّدَةً لسواها، بل آثرتْ أن تتفرَّدَ وتتألقَ وتُبدعَ، فرصدت الميزانيات الضخمة والإمكانيات الكبيرة خدمة لهذه الشعيرة وأولتِ البحثَ العلميَّ لقضايا الحجِّ والعمرة والزيارةِ اهتمامَها، ودعمت الجهودِ العلميَّةِ التي تتناولُ مشكلاتِ هذه الشعائرِ بالنظرِ الفاحصِ، والتحليلِ السليمِ. فأسال الله عز وجل أن يكون حجاً مقبولاً وسعياً مشكوراً وأن تكون بلادنا آمنة مستقرة والمسلمين أجمعين اللهم أمين.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store