Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

الحضارة المسلمة

A A
ما بين القرنين السابع والسادس عشر الميلادي كانت كل من: دمشق وحلب وبغداد والقيروان وقرطبة والقاهرة وفاس وغيرها من المدن العربية والإسلامية تعد من المراكز العلمية المشهورة في العالم، والبلاد العربية والإسلامية محجاً لطالبي العلم والمعرفة من جميع الأقطار، وكانت هذه الفترة هي بداية فترة تأسيس العلم والمعرفة في العالم، فلم يبقَ مجال في العلم مما نعرفه اليوم إلا وكان العرب والمسلمون أسسوه، لدرجة أن أطلق على تلك الفترة مسمى «فترة العلوم الإسلامية».

اسمحوا لي أن أعود بكم ثمانمائة سنةٍ للوراء!

إلى القرنِ السادسِ الهجريِّ بالتحديد، لأُخْبرَكم عن أولِ (روبوتٍ) عرفتْه البشريَّةُ!

في كتابهِ: (الجامع بين العلم والعمل) ذكر أبو العز إسماعيل الجزري أن الخليفة طلب منه أن يصنع له آلة تغنيه عن الخَدَمِ كُلَّمَا رَغِبَ في الوضوءِ للصَّلاة، فَصَنَعَ له الجَزَرِيُّ آلةً على هيئةِ غلامٍ منتصبِ القامةِ، وفي يدِهِ إبريقُ ماءٍ، وفي اليدِ الأخرى مِنْشَفةٌ، وعلى عمامتِهِ يقفُ طائرٌ، فإذا حان وقتُ الصَّلاةِ يُصَفِّرُ الطائرُ، ثم يتقدَّمُ الخادمُ نحو سيِّدِه، ويصبُّ الماء من الإبريق بمقدارٍ مُعَيَّنٍ، فإذا انتهى من وضوئه يُقَدِّمُ له المنشفة، ثم يعود إلى مكانِه، والعصفور يُغَرِّدُ.

لم يكنْ هذا الإبداعُ العلميُّ حالةً فريدةً في حضارتنا المسلمةِ، بل كانَ سمةً غالبةً تقابلُ سمةَ التفوُّقِ الروحيِّ الإيمانيِّ، فعلماءُ حضارتِنا الزاهرةِ حقَّقُوا الكثير من الإنجازاتِ، فهم أول من فصل الذَّهَبَ عن الفضَّةِ، وأوّلُ من عمل الجليدَ الصِّناعيَّ، وأوّلُ من اكتشفَ سرعةَ الضَّوءِ، وأولُ مَنْ صَنَعَ الكاميرا، وأوَّلُ من وضعَ جداولَ اللوغاريتماتِ الحديثةَ، وأولُ من اخترعَ الصفرَ، وأولُ من استخدمَ الإبرةَ المغناطيسيَّةَ في الملاحةِ، وأولُ من صنعَ الورقَ الفاخرَ الجيّدَ، وأولُ من صنعَ الزجاجَ .. إلى عشراتٍ بل مئاتٍ بل آلافٍ من هذهِ الأولياتِ العلميةِ الاختراعيَّةِ الاكتشافيَّةِ.

هذه الحضارةُ الفذَّةُ هي التي أخرجتِ البيرونيَّ، والرازيَّ، وابنَ النَّفِيسِ، وابنَ البيطارِ، والزَّهراويَّ، وابنَ زُهْرٍ، والإدريسيَّ، وابنَ قُرَّةَ، وغيرَهم ممَّنْ تركوا في سجلاتِ الريادةِ العلميَّةِ بصماتٍ لا تُنسى.

وقد كانتْ مزيَّةُ هذه الحضارة المسلمةِ أنّها أعلتِ البُنيانَ، وأَغْلَتِ الإنسانَ، مزجَتْ بين الجسدِ والروحِ، زاوَجتْ بين ضَرْبةِ الكفِّ وخفقةِ القلبِ، فنجَتْ حضارة الإسلامِ من جفافِ الروحِ وموتِ القيمِ وبَوَارِ الأخلاقِ.

كما كان من مزيَّتِها أنها أعطتِ الإبداعَ والإتقانَ مساحةً واسعةً في أدبياتها، وكان للعلماء في تلك الفترة شأن عظيم ومرتبة كبيرة عند الجميع وتم توفير كل ما يحتاجونه من دعم وتشجيع لكي يكتشفوا ويبدعوا ويتقنوا، وقد ورد، أن الخليفة العباسي المأمون كان يعطي لمن يؤلف كتاباً وزنه ذهباً، وكانت الكتب كلها ميسرة للاطلاع أو الاستعارة، لهذا كانت نسبة الأمية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت تكاد تكون معدومة، مقارنة بنسبة 95% في أوربا، لدرجة أن المستشرق (آدم متز) في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) قال: لا تعرف أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون في عصر نهضتهم وازدهارهم. وأخيراً ما ظنُّكم بحضارةٍ يقول نبيُّها صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يُتقِنَه).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store