Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد خضر عريف

دروس من يوم عرفة

A A
شهدنا قبل يومين يوم عرفة: وفود من المسلمين من كل حدب وصوب مجتمعون على صعيد واحد، يلفُّهم رداء واحد، ويجمع بينهم نداء واحد: (لبيك اللهم لبيك)، لا يتميز بعضهم عن بعض في ملبس أو زخرف بل قد اتشحوا جميعاً بوشاح أبيض. ولا يرفع بعضهم فوق بعض درجات اليوم إلا العمل الصالح والسجل الإيماني، وصدق النية في التوجه إلى الله تعالى حده ونبذ كل الخلافات الدنيوية والمشاغل الحياتية.

يا له من يوم لم تشهد البشرية منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وما عليها يوماً مثله في أي ديانة سماوية أخرى، إذ كم هو عظيم أن يفد الناس من كل بقعة على ظهر البسيطة ليجتمعوا معاً في يوم واحد ليشهدوا منافع لهم. وما كان ليجمعهم شأن آخر ديني أو دنيوي.

ولعل جمع المسلمين في صعيد واحد وفي وقت واحد شأن إسلامي عام تراه متجلياً في شعائر شتى. فإن يكن يوم عرفة أبرز الأيام التي تجمع المسلمين جميعاً، فإن هنالك أياماً أخرى على مدار العام يجتمع فيها المسلمون، ولا تؤدى شعائرها إلا بالاجتماع. ومن ذلك بالطبع صلاة الجمعة التي لا تقوم في بعض المذاهب إلَّا بأربعين من المصلين، وفي هذه الشعيرة الإسلامية الكبيرة يجتمع كل المسلمين ليستمعوا الى الإمام في وقت واحد منصتين صامتين. ولا يوجد محفل إنساني آخر عرفته البشرية يلزم فيه اجتماع الناس في يوم معين من كل أسبوع ويلزمهم فيه أن يستمعوا إلى خطيب أو متحدث دون أن يقاطعوه أو ينشغلوا عنه بحديث جانبي أو أي شيء آخر.

وصلاة الجمعة يدل اسمها في حد ذاته على الاجتماع، ولا تقوم إلا بالاجتماع. ويحظر خلال وقتها البيع والشراء لأنها تحقق للمسلمين ما فيه منفعتهم في الدنيا والآخرة.

وإن تكن صلاة الجمعة بخاصة تقوم على الجمع والاجتماع، فإن الصلاة في الإسلام بعامة تقوم على الجماعة، وقد خص الإسلام صلاة الجماعة بأجور مضاعفة حثاً للمسلمين على لزومها قدر المستطاع ذلك أن في اجتماعهم في المسجد زرعاً للألفة فيما بينهم وإتاحة لفرصة اللقاء خمس مرات في اليوم.

ومظهر الاجتماع هذا لا يتبدى فقط في فرض العين في الإسلام كالصلوات الخمس وصلاة الجمعة، بل يتعداه إلى بعض فروض الكفاية ومن ذلكم صلاة العيدين التي يطلب منها اجتماع المسلمين كافة رجالاً ونساء، أحداثاً وشيوخاً، حتى أن الحُيَّض يخرجن لهذا المشهد العظيم ولا يصلينَ. وكل ذلك إبراز لاجتماع أمر المسلمين على صعيد واحد وفي وقت واحد. وصلاة العيد كذلك تتيح فرصة إلقاء الخطبة من طرف واحد على أن يستمع الجميع ويتلقوا الرسالة الإسلامية الملقاة عليهم بخشوع وأناة.

وإن نفكر في هذه الأنواع الأربعة من الاجتماعات نجد ما يبعث على المزيد من الإعجاب في هذا النظام الرباني الرائع، إذ في الصلوات الخمس عادة ما يجمع أهل الحي الواحد الذين تربطهم علاقات القربى والجوار والهموم الواحدة، وقد يهيىء لهم مناقشة بعض هذه الأمور وحل بعض المشكلات بعد الصلاة.

أما في صلاة الجمعة فيجتمع الناس من أكثر من حي واحد لتتسع الدائرة قليلاً ويتم توجيههم إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم.

ثم تتسع الدائرة أكثر فأكثر بعد صلاة العيدين حين يجتمع كل أهل القرية الواحدة أو المدينة الواحدة في صعيد واحد.

وأخيراً يكون يوم عرفة الذي يجمع المسلمين جميعاً من كل حدب وصوب ليكون لقاء عالمياً لا يعدله لقاء كما شهدناه ونشهده كل عام.

ولو فكرنا في الدائرة التي تتسع شيئاً فشيئاً في هذه الشعائر لوجدنا أنها تضيق من حيث المرات التي تحصل فيها كل مرة. فالصلوات الخمس تحصل في اليوم خمس مرات، وصلاة الجمعة تقام مرة في الأسبوع وصلاة العيدين تحدث مرتين في العام، أما يوم عرفة فهو يوم واحد في العام، إذ كلما اتسعت دائرة الاجتماع قلَّتْ مرات الاجتماع في تنسيق وتنظيم بديع.

وما أحوج المسلمين إلى الإفادة من كل تلك الاجتماعات في التوجه إلى الله ونبذ كل ما سواه خصوصاً في هذه الأيام المباركة، أيام الحج.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store