Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

العجز السِّيمْفوني العربي!

وبالرغم من ذلك، تعاني الموسيقى بمعناها السيمفوني عربيًا غيابًا لا يبرره أي شيء سوى أننا لم نكوّن، عبر الحقب الفائتة، ذائقة حقيقية، وأذنًا رهيفة متقبلة لهذا النوع الذي أصبح إنسانيًا بامتياز واخترق الحدود كلها بدون عوائق، من أوروبا إلى أمريكا، حتى آسيا وإفريقيا.

A A
تشكل الموسيقى والرقص الفني ذاكرة الإنسان الأخرى، الذاكرة البديلة، غير ذاكرة الحروب والتقتيل التي اتسم بها الإنسان، ذاكرة تمنح الحياة والرغبة في الاستمرار، وتبين كم أن هذا الحيوان الشرس والقاتل الذي يتخفى وراء القيم الوطنية والقومية وحتى الإنسانية، قاتل ومدمر لكل ما تصنعه يداه لأغراض تحكمها الأنانيات في أغلب الأحيان.

الموسيقى تهذب وترتقي بالإنسان عاليًا وتخرجه من دائرة الأدخنة والرماد، والرقص الفني الملتصق بالأوبرا، يمنح الجسد البشري سمات روحية عالية غير تلك البيولوجية التي نعرفها عنه جميعًا، ويصعد به نحو معارج السماء. كم نسعد، بل وندخل في دوار الفرح والعواطف النبيلة ونحن نسمع ونرى أوبرا روسيني، أو فيرديي أو بيزت أو بورودين أو تشايكوفسكي، وغيرهم، حيث تسيطر الجاذبيات الإنسانية الراقية والعالية على كل الحواس البشرية الأخرى وينتفي الإنسان التاريخي الذي نعرفه والمنتصر للموت والتقتيل.

وبالرغم من ذلك، تعاني الموسيقى بمعناها السيمفوني عربيًا غيابًا لا يبرره أي شيء سوى أننا لم نكوّن، عبر الحقب الفائتة، ذائقة حقيقية، وأذنًا رهيفة متقبلة لهذا النوع الذي أصبح إنسانيًا بامتياز واخترق الحدود كلها بدون عوائق، من أوروبا إلى أمريكا، حتى آسيا وإفريقيا . قد تكون لذلك أسباب تاريخية غير مستعصية على الباحث، لكن الأساسي فيها هو الأوهام الأخلاقية المزروعة داخل أذهان المتلقين الذين لا يتقبلون رؤية راقصة أو راقصات بالي، بألبسة خفيفة. المسألة في النهاية ليست غريزية كما يُظنّ، ولكنها تربوية، متأتية من فراغ في التكوين. العين التي تُربى على تسبيق الحالة الفنية على كل شيء آخر، لن ترى في الرقصة جسدًا يتحرك بغواية، ولكن نظامًا موسيقيًا إنسانيًا عظيمًا يرتقي بالنفس عاليًا، ويخرج الجسد من ميثولوجيا القداسة الدينية القديمة، إلى قداسة الحركة وانسجامها وخلق حالة انتشاء الروح.

ليس الرقص هو ما نراه فقط، بل ما نحسه أيضًا من جمال ينشأ من الأداء العظيم والموسيقى الرفيعة، لهذا تبدو خساراتنا الروحية عربيًا كبيرة، ونتساءل كيف يمكننا أن نتدارك جزءًا من إنسانيتنا المسروقة، باسم النظم الفارغة التي لا قيمة لها في النهاية سوى المزيد من حَيْونَة الإنسان. الموسيقى والبالي حماية حقيقية من التوحش البشري، إذ يرى أمام عينيه، كيف يتحول الجسد القاتل والمسلح بالنار، والمحارب، إلى جسد يمنح الحياة والنور والتسامي. كل حركة فيه هي نوتة موسيقية غير مرئية، ولمسة من لمسات الحياة المقدسة. تغييب الموسيقى من منظوماتنا التربوية العربية، هو تغييب حقيقي للإنسان في حالات ارتقائه، الدعوة إلى هذا هي مشروع كبير لأنسنة إنسان اليوم المشبع بالقوة والحروب، سيقول قائل إن حب هتلر لفاغنر وعشقه له، لم يمنعه من التحول إلى طاغية أدمى البشرية بملايين المقتولين، لماذا لم تمنعه الموسيقى الفاغنيرية من محاولة تدمير العنصر البشري بحيث أفنى أقوامًا بأسباب دينية أو عرقية كما حالة اليهود والغجر؟ فكرة يمكن فتحها لنقاش أقوى، هذا مردود عليها.

السؤال البسيط هل يمكن منع توفر بعض عناصر الإنسانية في هتلر؟ ألم يحب إيفا براون؟ ألم يكن فنانًا تشكيليًا؟ لكن كل هذه الممارسات لم تصل إلى تغيير الإنسان من الداخل، بل ظلت حالات شكلية، خارجية. في موسيقى فاغنر شيء من تاريخ ألمانيا القديم بأساطيرها التي تمجد القوة والتمايز عن الآخرين. فقد وجد هتلر في فاغنر الذي مجد العنصر الجرماني، مادته التي تبرر أحقية الجنس الآري في كل شيء، ونحن نعلم منذ الباحث الانثروبولوجي الفرنسي ليفي ستروش، أن لا أجناس على الأرض إلا الجنس البشري بمختلف تنوعاته في اللون والثقافة وأنماط الحياة والتاريخ. وأفحم ستروش نظرية العرقية التي استعملت لإذلال الشعوب بحكم اختلاف الثقافة أو اللون، مثل العبودية التي تشكل اليوم هزيمة الإنسان أمام نفسه وداخله القادر على البشاعة. استعملت موسيقى فاغنر لا للغرض الإنساني ولكن لأهداف ترمي إلى ابتذال الإنسان. فقد كانت الموسيقى بالنسبة لهتلر وسيلة إيديولوجية للتمايز العرقي، أي عكس الهدف الذي وجدت من أجله الموسيقى السيمفونية. في هذه الحالة، هل يجب نقد فاغنر في خياراته الموسيقية التي ترتكز على الأساطير الجرمانية؟ تلك مسالة أخرى أكثر تعقيدًا، لكن لا شيء يمنع من تدريس الموسيقى السمفونية في مدارسنا وتعليمها لأنها المرمم الأساسي لإكسسوارات الروح في مجتمعات حالية، وقادمة، ستكون حتما شديدة القسوة، حيث منطق القوة، وانفتاح المساحات أمام كل التطرفات الخطيرة، التي تلغي الإنسان كوجود، ما دام الإنسان الآلي، من لحم ودم، هو الآن في طور التشكل، الإنسان المبرمج، البشرية التي طورت أسلحة الدمار الشامل، هي على مشارف خلق الإنسان الذي يسير وفق الحاجة المرجوة. يمكن للموسيقى أن تحمي بقايا الإنسان فينا، من التحول إلى آلة تنفذ ما يُراد منها، حتى التدمير الذاتي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store