Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

القبيلة.. إشكاليات الجذر والفرع

وبالعودة لما تقرر في مقال الأسبوع الماضي من أن أي قبيلة تعجز عن إثبات انتساب أفرادها جميعهم لأصل واحد، وكان هذا العجز متحققًا على مستوى القبيلة الواحدة على قلة أفرادها، فكيف يسوغ للبعض جعل (قبائل عدة) بكل كتلها البشرية تنتمي لجذر علوي واحد؟

A A
ما كنت لأُعاود الكتابة عن قضية انتساب القبيلة لأصل واحد لولا كمُّ التفاعل الذي حظي به مقال الأسبوع الماضي من قِبل عدد من الزملاء والمثقفِين الذين صادقوا -عبر اتصالاتهم ورسائلهم- على ما جاء فيه، وهو ما جعلني أستدعي قضيةَ ما يسمى بالجذور وتدوينات المؤرخين عنها، وقضيةَ الوصاية التي تمارسها بعض القبائل بحجة أنها جذور وغيرها فروع تابعة لها. وقد تبين لنا في المقال المذكور أن أي قبيلة ما هي إلا خليط من أعراق شتى تجمعهم بقعة جغرافية واحدة، وربما لا نجد فيها إلا أفرادًا معدودين ينتسبون فعلاً للجد الذي تنتسب له القبيلة، بمعنى أن القبيلة تخضع للشرط الجغرافي الذي هو رابطها الأساس، فهي أشبه ما تكون بدولة مصغرة. تبدأ الإشكالية بما دوَّنه المؤرخون وتلقفه النسَّابون حينما جزموا بأن القبائل العربية في الجزيرة العربية والشام والعراق جاءت من اليمن وتحديدًا من سبأ بعد خراب سد مأرب، وعليه فالعقل الواعي لابد أن يطرح حول هذه المدونات جملة من التساؤلات خصوصًا ونحن لا نناقش نصًّا شرعيًّا ولا مسلَّمةً دينيةً. أُولى هذه التساؤلات المطروحة يقول: هل يُعقل أن العرب الموجودِين اليوم في الجزيرة العربية والشام والعراق أصولهم جميعًا من سبأ؟ يقينًا أن هذا القول منتفٍ كانتفاء انتساب أفراد القبيلة لأصل واحد وللأسباب ذاتها التي وردت في المقال السابق. ثاني هذه التساؤلات يقول: كيف استطاعت سبأ (ذات المساحة المحدودة) استيعابَ هذه القبائل كلها قبل هجرتها وهي -أي القبائل- التي ضاقت بها تلك الجهات (عند) هجرتها إليها؟ التساؤل الأخير: عندما هاجرت القبائل السبئية إلى تلك الجهات، هل يعقل أنها كانت خالية من البشر، وإن كانت مأهولة فكيف استطاعت القبائل السبئية المهاجرة جميعها -وقد أنهكها السفر مع قلة زادها وعتادها- التغلبَ على قاطني تلك الجهات (المستقرِّين)؟ لذا، فعلى أي وجه تَقرأ تلك المدونات فلن تجد على رأي طه حسين (إلا شكًّا)، بوصفه الإجابة المثالية على تلك التساؤلات. أمر آخر أعجبُ في قضية هجرة القبائل السبئية، وهو أن المؤرخِين كتبوا مدوناتهم وكأنهم كانوا ملازمِين لشرائح من المهاجرِين السبئيين حينما ذكروا أن تلك الشرائح نزلت أماكن معينة، وهي أماكن طبيعتُها وَعْرَة، وتقل مصادر المياه فيها، وتندر أراضيها الصالحة للزراعة، ويصعب العيش فيها -في تلك العصور- وتركت الأماكن السهلة ذات المياه المتدفقة والأراضي الواسعة الصالحة للزراعة. وعليه، وفي ظل تلك المعطيات المتناقضة فيظهر أن العكس هو الأقرب للصواب؛ أي أن نزول أولئك المهاجرِين بدأ أولاً في الأماكن السهلة ثم تمددوا بعد ذلك في غيرها. ونتيجةً لتناقضات تدوينات المؤرخِين تلك فقد تولد عنها ما يُعرف بنظرية (الجذر والفرع)، فأصبح في حكم المُسلَّم به أن سكان الأماكن السهلة هم فروع للجذور التي نزلت أولاً في الأماكن الوَعْرَة. لكن، وبالعودة لما تقرر في مقال الأسبوع الماضي من أن أي قبيلة تعجز عن إثبات انتساب أفرادها جميعهم لأصل واحد، وكان هذا العجز متحققًا على مستوى القبيلة الواحدة على قلة أفرادها، فكيف يسوغ للبعض جعل (قبائل عدة) بكل كتلها البشرية تنتمي لجذر علوي واحد؟ وعليه، فنظرية (الجذر والفرع) ينبغي أن تُمحَّص وربما يستدعي الأمر مصادرتها؛ نظرًا لعجز القائلِين بها عن إثبات صحة ما يدَّعون، أضف إلى ذلك فقد استدعى الإيمان بها إشكاليات تَمثل بعضها في نشوء الخلافات بين أفراد القبيلة الواحدة من المؤمنِين بالنظرية والمنكِرين لها، كما أنها جعلت للجذر (المتوهَّم) حقوقًا على الفرع (المصادِق)، وجعلت الفرع يمارس طقوسًا تصب في مصلحة الجذر، وجعلت الفرع لا ينفك عن الانتساب والالتصاق بالجذر وكأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً إلا بملازمته، مذيِّلاً أي إنجاز باسم الجذر، متجاوزًا تضحيات الفرع، وغيرها من الإشكاليات التي لا سبيل لانتفائها إلا بالشك في ما دوَّنه المؤرخون، والانعتاق من التبعات التي ترتبت عليها. وحتى لو صح انتساب فرع لجذر -مع صعوبة ذلك- فينبغي أن يتمتع الفرع بالاستقلالية، لا أن يبقى تابعًا ورهن وصاية الجذر.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store