Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

يوم بكت أستاذتي

بانوراما

A A
إن الرحلة في طلب العلم كما يقول ابن خلدون في مقدمته، ليست للتعلم فقط، ولكن «لمزيدِ كمالٍ في التعلم»، وهذه غاية لا تتم إلا بالاحتكاك بين البشر. فبفضلٍ من الله، ثم بفضل دعاء الوالدين كانت المشرفة على دراستي للدكتوراه في جامعة ويلز هي البروفسورة (سيلفيا لتكنز) تلميذة عالم الإحصاء الشهير البروفسور (ديفيد لندلي). كانت هذه السيدة الفاضلة على درجة عالية من العلم والخلق وحسن التعامل وقد تعلمت منها الكثير، ليس فقط في مجال تخصصي، ولكن تعلمت منها أيضاً احترام الوقت وحب القراءة والتواضع والتعامل الحسن. كانت دائماً تحرص أن تكون أول من يحضر قاعة المحاضرات قبل مجيء الطلاب، وآخرهم بعد انتهائها، كما كانت تحرص أيضاً علي ساعاتها المكتبية، فتراها تتواجد في مكتبها لاستقبال طلابها الذين قد يحتاجون اليها في أي استشارة تتعلق بدراستهم. هي التي شجعتني على قضاء أوقات فراغي في مكتبة الجامعة والتي كانت تفتح أبوابها من الساعة التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءً. كانت هذه السيدة على معرفة كاملة بثقافة الشعوب وخاصة المسلمين، لأن أغلب طلابها في برنامج الدراسات العليا من البلاد العربية والإسلامية. في أحد الأيام قالت لي: غداً مساء، أدعوك أنت وزوجتك لتناول طعام العشاء في منزلي، وكانت تسكن بمفردها -وهي غير متزوجة- في مبنى جميل في قمة جبل (بنج لايز) المطل على المدينة، ثم التفتت إليَّ وقالت: كن واثقاً من أنه لن يكون على المائدة خمر ولا خنزير. كانت في السبعين من العمر، ومن هواياتها الأعمال التطوعية ورحلات تسلق المرتفعات، -ومعروف عن مقاطعة ويلز أنها محاطة بجبال شاهقة-، ولحبي للرياضة، كنت في بعض الأحيان أرافقها في هذه الرحلات-(وهذا من معاني الإشراف في الجامعات)-، خاصة أنها تكون عادةً في إجازة نهاية الأسبوع.
أتذكر أنني سألتها ذات مرة عن شغفها وحبها للعمل التطوعي، قالت: إن هذا العمل هو من أكثر الأعمال نبلاً لأنه يتمثل في تقديم يد العون لإنسان قد لا تعرفه بالضرورة. في يوم مغادرتي أنا وأسرتي عائدين إلى المملكة بعد انتهاء دراستي، في ذلك اليوم أصرت هذه السيدة الفاضلة أن تأخذني وأسرتي بسيارتها الخاصة إلى محطة القطار لتوديعنا. تحدثنا معها أنا وزوجتي ثم اقترب موعد تحرك القطار. صعدت الى عربة القطار واستمررنا في الحديث ولما صفَّر القطار إيذاناً بالتحرك، دمعت عينا أستاذتي الفاضلة، فقلت لها: لماذا تبكين دكتورة؟ أنا ذاهب إلى بلدي أحمل ما تعلمته منكِ، وأشرف بحمل اسمك على شهادتي، قالت: إن ما خبرته منك وبلدك شيء جميل ورائع للغاية، وكنت أول وآخر طالب سعودي -على ما أعتقد-أشرفت عليه لأنها تقدمت بعدها بطلب التقاعد من العمل الأكاديمي والتفرغ للأعمال الخيرية والتطوعية.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store