Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في استقرار الدول والمجتمعات باستمرار النقد والمراجعات

A A
«ألا ترى حجم النقد الوارد في الصحافة الأمريكية من قبل كثيرٍ من الكُتّاب والمثقفين والإعلاميين لكل جوانب الثقافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وواقعها في بلادهم؟». كان هذا السؤال جزءاً من حوارٍ مع أحد المثقفين (الإسلاميين) ممن يحتفون هذه الأيام بشكلٍ كبير بالكتابات الأمريكية التي تدخل في إطار ما يمكن أن نسميه عمليةَ مراجعات ثقافية وسياسية تمارسها اليوم شرائح كبرى في الولايات المتحدة في خضم الأحداث التي تجري فيها. كان كلام المثقف الصديق، في جانبٍ منه، عتاباً يوجههُ لكاتب هذه الكلمات، ولغيره، ممن كانوا ولا يزالون يحاولون -للمفارقة- الدعوة إلى، وممارسة، عملية المراجعات نفسها داخل المجتمعات العربية والإسلامية، إيماناً بضرورة تكامل هذه العملية في هذا العالم شرقاً وغرباً، إذا كان لمثل هذه العملية أن تُحوِّل الواقع الإنساني نحو الأفضل.

إن المبادرة بعملية المراجعات، والاستمرار بها، في خضم الأزمات يمثل ممارسة حضارية بالغة الرقي والدلالة على قوة من يمارسها وتجرّده.. نعم ثمة قوة كبيرة وإيجابية تكمن في امتلاك القدرة على التجّرد والمراجعة والاعتراف بالخطأ في قمّة الأزمة، وامتلاك اليقين، في الوقت نفسه، بأن ممارسة التصحيح الذاتي يمكن أن تكون وحدَها الطريق الأضمن للتعامل مع الهزائم والتراجعات والأزمات، حتى دون الحاجة إلى الشكوى من الطرف الآخر وإلى صبّ اللعنات والشتائم والاتهامات من كل نوع عليه.

فتلك الرؤية تفرز ثقةً كبيرة بالنفس، وتدلُّ على امتلاك الإنسان لقوةٍ داخليةٍ متميزة، تجعله يوقن بأن فعله البشري هو الذي يصنع الحدث ويؤثر فيه ويقوده بالاتجاه الذي يريد، مهما كان موقف الطرف الآخر، ومهما كانت قوته وجبروته. على أن يكون من أهمّ عناصر فعلهِ البشري ممارسةُ النقد الذاتي باستمرار، والاعتراف بالخطأ والتراجع عنه، وبالذات في وقت الأزمات.

والمفارقة تكمن في ألا ينتبه الكثيرون من أمثال صاحبنا المثقف إلى حقيقة أن مثل تلك المقالات النقدية التي يتحدث عنها إنما هي منشورة أصلاً في الصحف والمجلات الأمريكية، وبلغة أهل البلاد التي تصدر فيها تلك الصحف والمجلات. بمعنى أن هذا النقد هو نقد ذاتي داخلي، وأنه بمثابة التعبير الصادق عن المراجعات التي لا يقوم بها إلا الأقوياء، ثم لا يضيرهم في شيء أن يقرأها الآخرون مترجمةً بعد ذلك، بل ولا يعنيهم أن يفرحوا ويغتبطوا به في كثير أو قليل. لكن المأساة تتمثل في أن يظن أمثال هؤلاء المثقفين أن هذه هي نهاية الطريق، أو أن هذه المراجعات التي يقوم بها أولئك الغربيون تعبر عن صورة الأزمة بكاملها، غافلين عن دورهم المطلوب في هذا المجال.

لقد آن لنا أن نعترف أن الإنسان العربي والمسلم بات يحفظ عن ظهر قلب، ومنذ عقود، جميع سيناريوهات الغدر والظلم والتآمر والبغي التي تستهدف وجوده وحاضره ومستقبله، وإلى درجة اختلطت فيها الحقيقة بالخيال والأوهام، بل وإلى درجة جعلته هو نفسه مُبدعاً بامتياز في ابتكار تخريجات جديدة لتلك الممارسة المشؤومة مع كل مناسبة أو أزمة مستجدة.

وربما آن الأوان لنعترف أن كثيراً من مثقفينا وعلمائنا وقادتنا يساهمون في تأزيم الوضع الفكري والسياسي والاجتماعي والأمني في بلادنا عبر تكرار تلك الممارسات، وهم يسحبون من إنساننا القدرة على ممارسة الفعل في الموقع الذي يُمكن فيه الفعل. وهو فعلُ المراجعة والنقد والتصحيح الذاتي والبناء الداخلي في هذه الحالة، ليضعوا هذا الإنسان، بدلاً من ذلك، في موقع الحيرة الشديدة التي إما أن تؤدي إلى اليأس والإحباط والهزيمة الداخلية، أو الانفجار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store