Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

خصوصية هوية أم انعزالٌ وقوقعة؟

A A
قد تكون القضايا المتعلقة بالسؤال المذكور من أكثر الإشكاليات حساسيةً في الواقع العربي والإسلامي المعاصر.. فالإحساس بخصوصية الهوية أمرٌ مطلوبٌ بحدّ ذاته.. وهو إحساس يحمي الثقافة الذاتية من الذوبان في الثقافات الأخرى بشكلٍ كامل.. بل إنه يؤثر بشكلٍ إيجابي في الحضارة الإنسانية المعاصرة عموماً.. لأنه يحفظ لكل ثقافة إمكانية اكتشاف كمونها الخاص الذي يساعدها على الإسهام بشكلٍ فعال في تلك الحضارة بدلاً من الاقتصار على التلقي السلبي منها.. وبهذا، يظل التنوع مصدراً من مصادر بناء الحضارة البشرية، وهو ما يضفي عليها إنسانيتها الحقيقية في نهاية الأمر.

لكن المشكلة تظهر حين يبالغ أهل ثقافةٍ معينة أو دينٍ محدد في التعلق بخصوصيات ثقافتهم أو دينهم والتأكيد عليها والتمحور حولها نظرياً، وحول مقتضياتها عملياً، إلى درجة الوقوع في مطب القوقعة والانعزال عن العالم، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من سلبيات وأزمات داخلياً وخارجياً. وأسوأ هذه النتائج يتمثل في صياغة خطابٍ منغلقٍ على ذاته وعلى خصوصياته لا يملك أهله القدرة على فهم هذا العالم بشكلٍ سليم، ولا على التعامل والتعايش معه بأمنٍ وسلام.

وإذا نظرنا إلى واقع الثقافة السائدة في كثير من المجتمعات الإسلامية، فإننا نجد أن الخطاب الذي يبالغ في التأكيد على (الخصوصية) حاضرٌ بقوة، سواء كان ذلك بلسان الحال أو بلسان المقال.. مع وجود بعض الاستثناءات هنا وهناك.

ورغم كل التغيير الذي يُفترضُ أنه حصل، يظهر ذلك الخطاب في أدبيات كثير من الحركات والجماعات، ويتجلى في كثير من مناهج التربية والتعليم الرسمية وغير الرسمية، ويمكن استقراء حضوره في الممارسات العملية لكثيرٍ من المسلمين على المستوى الفردي أو الجماعي، سواء كان الأمر على المستوى الفكري والثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، حيث يمكن دائماً سماع دعوات المفاصلة مع الآخر والانكفاء على الذات الداخلية.. وحيث يجري بالمقابل تصوير دعوات الانفتاح على العالم والتعايش معه على أنها مغرضة، وتهدف أول ما تهدف إلى تمييع الهوية وإلى نقض معالم الخصوصية الإسلامية.

صحيحٌ أن هناك مظاهر توحي بوجود تغييرٍ فيما يتعلق بخطاب الخصوصية بين المسلمين في السنوات القليلة الماضية، وهو تغييرٌ يتشكل غالباً من خلال ردود الأفعال على الواقع، وبفعل التغيرات والضغوط التي واجهها المسلمون في الفترة السابقة. لكن قدرة خطاب (الخصوصية المبالغ فيها) على الاستمرارية رغم تلك التغيرات تُظهر مدى تجذّره وعمقه في الثقافة السائدة.

وقد يكون مفيداً هنا الإشارة إلى أحد الإشكالات الرئيسة التي تنتج عن وجود خطاب الخصوصية المذكور.. يتمثل هذا في إمكانية الوقوع في شبهة الشعور بالاصطفاء العرقي، حيث يخلق التأكيد المبالغ فيه على الخصوصية إحساساً بنوعٍ من الفوقية على الآخرين من بني البشر.

ما نتحدث عنه هنا يختلف عن الخيرية التي تشير إليها الآية الكريمة {كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس}. وهي خيريةٌ تُعتبر مسؤوليةً وشرفاً عندما تتحقق مقتضياتها وشروطها.. أما ما نخشاه فإنه يتعلق بإمكانية تكرار الفهم اليهودي لمسألة (شعب الله المختار)، ولكن من خلال تنزيلها هذه المرة على المسلمين بكل ما فيها من فهمٍ خاطىءٍ. بحيث يجري إشاعتها وإقناع العقل المسلم بها، ثم يتمَّ التعامل مع الآخرين انطلاقاً منها.

ومن نافلة القول أن قبول هذه الطريقة في فهم الخصوصية يمثل أقصر طريقٍ للاستقالة الفكرية، وللارتخاء النفسي والعملي في أوساط المسلمين. لأن من يقتنع بأن لديه ضماناً للفوقية في الدنيا وللنجاة في الآخرة، فقط بمجرد انتمائه لدينٍ معين، وبغض النظر عن مقتضيات ذلك الانتماء، فإنه لن يشعر بحاجة للحركة أو التفكير أو بذل الجهد.. هذا فضلاً عن أن تلك الطريقة تمثل أيضاً مدخلاً أكيداً لإثارة الصراعات والحروب والنزاعات.. وهو ما أظهرته التجارب البشرية على امتداد التاريخ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store