Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

فنّانة الشعب في الدرجة الاقتصادية؟!

A A
فجأة عم الضجيج بشكل فجائي في الطائرة.. ولو كنت بعيدًا لظننت أن هناك اقتحاماً إرهابيًا للطائرة.. عرفتها من شكلها.. لم تتغير إلا قليلاً.. رأيتها مرارًا في القنوات الوطنية والعربية.. فنانة تغير وجهها وصدرها كليًا منذ أن دخلهما البتوكس والسليكون.. المشكلة ليست هنا، لأنه في النهاية، هي حرة في جسدها.. كل شيء كان هادئًا على الرغم من تأخر الرحلة.. صعدت إلى الطائرة، رأسها في السماء ومنخاريها في الهواء، بنطال دجين، وتيشورت أسود، نظارات شمسية تغطيان نصف وجهها، وشعر شديد الصفرة من كثرة المواد الملونة، الحاجبان نزعا وعوضهما خطان رقيقان معقوفان، لم تتغير ملامحها الجميلة كثيرًا لكن نفخات البتوكس في الشفتين والخدين غيرتها بعض الشيء.

تعرفت على والدها قبل سنوات طويلة في سنوات الظلام، في التسعينيات، كان يأتي حاملاً عوده ويؤدي الأغاني الصحراوية.. وقفتْ وأغلقتْ مدخل الطائرة كليًا.. نبهها المضيف أنها ركبت ناحية الدرجة الأولى والبزنس.. وعليها أن تتقدم إلى الأعماق نحو الدرجة الاقتصادية.. قالت محتدة: أنا ضيفة وزارة الثقافة.. ولا يمكن أن أجلس إلا في الدرجة الأولى.. أضعف الإيمان البزنس.. من شدة حنقها، كنت أخشى أن تنفجر شفتاها وتسيل المواد النافخة.. صرخت في وجه المضيف الأجنبي لأن الطائرة أجنبية استأجرتها الخطوط الجزائرية للتخفيف من ضغط المسافرين: «اسمع يا سيد.. أنت لا تعرفني.. أستطيع أن أحولك إلى فقير يستجدي في الطرقات.. أنا هنا السيدة وأنت خادمي».. كانت من حين لآخر تلوح بحقيبة حمراء فاقعة اللون عليها دمعة لانسيل الشهيرة.. «أنا فنانة الشعب، وفنان الشعب لا يهان في أرضه ووطنه.. ومن لا يعرفني هو جاهل وأمي»..

أعتقد أنها كانت تعطي درسًا في الخواء والأمية.. قال المضيف وهو يحاول أن يكون هادئًا.. «اعتبريني أميًا يا سيدتي، ولكن بطاقتك الاقتصادية لا تسمح لك بالجلوس هنا».. قالت وهي في قمة غضبها: «خلاص.. انت ركبت رأسك، فسأركب رأسي أيضًا.. أنا سأتحدث الآن مع الوزير، ومسؤول الأمن.. وسأنزل لكني سأخرب لك بيتك.. ثم أنا كلوسترونوب، لا أتحمل الناس ورائي وأمامي». أجاب المضيف اللطيف ببرودة دم: «قصدك كلوستروفوب، لا تحبين الأماكن المغلقة». صرخت: «تعلمني اللغة الفرنسية؟» «كلوسترونوب.. كما تريدين سيدتي»، علق المضيف.. الرحلة داخلية لا تتعدى 40 دقيقة طيرانًا..

تدخل أحد مسؤولي الرحلة بعد أن غمز المضيف: «هو لم يعرفك، لكن نحن نعرفك.. أنت فنانة الشعب كله من الشمال إلى الجنوب.. وسيدة الغناء العربي». نسي فقط أن يذكرها أنها سجنت قبل مدة، في قضية تتعلق بالدعارة والمخدرات.. انفرجت أساريرها كليًا مثل الصور الكارتونية.. وارتسمت ابتسامة منعها ثقل البتوكس من أي إشراق.. حركت شعرها إلى الوراء، وزادت من اللعب بالعلكة التي كانت تتفرقع في فمها ابتهاجًا وانتصارًا.. كانت على مسافة متر مني.. التفتت نحوي فجأة.. نظرت طويلاً.. ثم قالت: «كأني أعرفك.. وين شُفتك؟»، قلت لها «يخلق من الشبه أربعين.. هذه نسخة ضائعة.. أما أنا فأعرفك.. فنانة الشعب العظيمة».. تمططت في مكانها حتى لم يعد المكان يكفيها.. وراء هذا البهرج يوجد فراغ اسمه قلة الوعي الذي يفترض أن يعلم التسامح ومحبة الناس.. هذا الجهل المعمم يقتل الفنان حتى عندما تلعب الصدفة وموهبة الصوت الطبيعية دورها في الشهرة، على الفنان الأصيل ألا يكتفي بصوته وأميته.. ولا يكون من الذين صنعت الموهبة والصدفة جهلهم وشهرتهم.. ارتخت فنانة الشعب على كرسي الدرجة الأولى، ثم بدأت تدندن أغنية عن كرة القدم والفريق الوطني: «هاذي البداية ومازال، مازال...».. ثم التفتت نحو المضيف الذي كان يكتم ضحكته بصعوبة.. قالت: «شفت فنانة الشعب تفرح الناس أينما وجدوا.. لومبيونس (النشاط)». عندما انتهت من الغناء طلبت منه إذا كان يسمح لها بالتدخين.. أجابها ضاحكًا: «طبعًا ممكن، لكن برات الطائرة.. افتحي النافذة بجانبك لكي لا نلوث المكان». نظرت الى النافذة لكنها لا تفتح.. «اذن انتظري حتى نصل إلى نقطة وصولنا وسأهديك سيجارة وأسعد بشرف إشعالها لفنانة الشعب».. تدلّت شفتاها رضا، دون أن تنسى فرقعات علكها التي طغى عليها محركا الطائرة استعدادًا للانطلاق.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store