Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أين (البيان) و(البلاغ المبين) في الخطاب الإسلامي؟

A A
لسانُ الحال أبلغ من لسان المقال كما يقول العرب..

ولكن، إذا كان جزءٌ كبير من واقع المسلمين العملي سبباً للنفور من رسالتهم في هذا العالم، خاصةً فيما يتعلق بمظاهر العنف والغلو والتطرف، فإن الخطاب الإسلامي النظري، الفكري، الثقافي، الإعلامي نفسه يبدو، أيضاً، بحاجةٍ لإعادة نظر.

لا يمكن لأي دين بناء منظومةٍ للتواصل، والتعامل، مع الآخرين بغياب قدرة أصحابه على تقديم مضمونه للعالم بمستوى مُقدَّر من الوضوح والتحديد والتفصيل. هذا ما يدخل في مفهوم (البيان): {هذا بيانٌ للناس}. أما القدرة على صياغة خطابٍ تتحقق فيه شروط البيان المذكور فتتطلب أول ما تتطلب تمكُناً من لغة الناس، قريبهم وبعيدهم.

لسنا هنا بإزاء تعريفٍ للغة يتضمن الدلالة الحرفية للكلمة فقط.. وإنما المطلوب أيضاً الإحاطةُ بالثقافة التي تُشكّلها تلك اللغة في مجتمعها. فإذا نظرنا إلى عدد وتنوع اللغات والثقافات التي يتشكل منها العالم المعاصر، يصبح بإمكاننا رؤية حجم التحدي المطروح.. وهو تحدٍ من المؤكد أن المسلمين لم يتمكنوا من مواجهته بشكلٍ فعال.

قد يشكو البعض من قلة الإمكانات، لكن حقيقة المشكلة تتمثل في غياب مفهوم (البيان) داخل الثقافة الشائعة في بلاد المسلمين. فبذلُ الجهد العلمي المطلوب لذلك، ومعه التخصص والتحليل والتحقق والتقصي والاستقصاء والبحث ليست جميعاً من التقاليد السائدة في تلك الثقافة، رغم أنها من الشروط الأساسية لتشكيل خطابٍ يتصف بالبيان.

بل ربما كان الأمر على العكس تماماً.. فالسائدُ هو التعميم والاستعجال والاختزال والسطحية والاجتزاء، سواء تعلقَ الأمر بفهم الإسلام نفسه أو بطريقة تقديمه للناس.. بل إن ثمة مسلمين يعتقدون أن المهمة بأسرها لا تتعلق بهم، وإنما هي مُلقاةٌ على عاتق غير المسلمين..

هذا يؤكد غياب مفهوم البيان من جهة، وأهمية استصحابه من جهةٍ أخرى، كمقدمةٍ لابد منها على طريق صياغة خطاب إسلامي معاصر يخاطب الناس. كما أنه يؤكد الحاجة لجهودٍ مقدّرة تهدف لتقديم الإسلام كشريعةٍ تنبض بالحيوية والحركة والحياة، وتحمل قدرة كبيرة على استيعاب متغيرات العصر، وكموناً واسعاً للإجابة على الأسئلة الكبرى التي تطرحها الحضارة العالمية المعاصرة في كل مجال.

فضلاً عن ذلك، يركز القرآن على مقولة {وما على الرسول إلا البلاغ} في أكثر من آية، وفي سياقات متنوعة، قد يكون الهدف منها التأكيد على محورية هذه المهمة. مما يوحي بأن تحقيق مهمة البلاغ والبيان ليست حصرًا في برنامج دَعَوي أو حلقةٍ للإفتاء، وإنما يمكن تحقيقها في كل منتج إعلامي وثقافي أياً كان موضوعه ونوعه حين يدرك الإنسان محورية هذا المفهوم في صياغة الخطاب الإسلامي المعاصر المطلوب. من هنا.. سيكون مفهوماً حديثُ القرآن الحاسم عن أهمية (البلاغ) في آية تخاطب الرسول بكل وضوح وقوة: {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغتَ رسالته}.

ثمة معنىً آخر في غاية الأهمية يتعلق بآية {ما على الرسول إلا البلاغ} المذكورة أعلاه، يتمثل في تجنُّب كل ممارسات القهر والإجبار والإكراه على قبول الدعوة والرسالة بالعنف القولي أو العملي. لا تتعلق المسألة هنا برسالةٍ يعتقد حاملها أن فيها خيراً، وأن على الآخرين أن يقبلوا اعتقاده المذكور عنوةً وقسراً. فهذا يتناقض جذرياً مع قيمة (حرية الاعتقاد) الأصيلة في الرسالة نفسها. فضلاً عن تناقضه مع المنطق والعقل. فماذا يكون المتوقعُ، نفسياً وعملياً، من إنسانٍ يقبل اعتناق رسالةٍ دون قناعة، وبمدخل الغصب والإكراه؟

نحن هنا بإزاء منظومةٍ تحترم الحوار المُبين الواضح من جهة، والحرية من جهةٍ أخرى. يظهر هذا جلياً في آياتٌ أخرى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ}، {فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}.

يُلاحظُ في الآية الأخيرة الجمع بين مفهومي (البلاغ) و(البيان). والخبير بعلوم اللغة في عصرنا الراهن يدرك أهمية الربط بين الأمرين بشكلٍ وثيق يبدو جلياً في القرآن أيضاً منذ زمنٍ طويل. {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِين}، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ}، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ الْمُبِينُ}، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ}، {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ}..

هذه ليست محاضرةً فقهية.. لكن الإحالة إلى النص الأصلي للرسالة تبدو ضرورية.. فمع الفوضى السائدة في تقديم الخطاب الإسلامي للناس، من حيث افتقاره لمقوّمات وعناصر (البيان) المذكورة أعلاه من جهة، وفي ظل شيوع عقلية الإكراه على قبوله من جهةٍ أخرى، مع كل ما يسببه الأمران من إشكالات مع غير المسلمين، يبدو فتح الملف للحوار فيه، على الأقل، ضرورياً. وهذا بالتأكيد مهمةُ المسلمين قبل غيرهم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store