Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

واستقم كما أُمرت..

A A
من الأحاديث الشريفة التي تُروى عن سيِّد الخلق: «أُمِرتُ أن أخاطِبَ الناسَ عِلى قَدْرِ عقولِهم»، فقد شاءت الحكمة الربانيَّة أن يختلف الخلق في عقول البشر ومداركهم، وشاءت إرادة الخالق تبارك وتعالى أن يكون لكلٍّ منَّا طريقته الخاصة في التفكير والتخاطب مع الآخرين.. ولو شاء ربنا لجعل الناس أُمَّةً واحدةَ، لذا تبرز هنا الفائدة من التعرُّف إلى عادات الذين نتعامل ونشترك معهم في تقاليدهم وأساليبهم للعيش معًا وتوثيق عرى التعاون بيننا.

فاليابانيُّون مثلًا ينتهجون أسلوب اللَّف والدوران حول المطلوب الذي يودُّون تحقيقه، لفُّهم ودورانهم لا يمتُّ بصلة لما هو متعارف عليه في بعض المجتمعات الإسلامية التي يتَّسم فئة من أفرادها بالغشِّ والمراوغة، إنَّه لفٌّ ودوران يهدف إلى جلب انتباه المخاطب دون إحراج، لتأدية عمل سها عن إنجازه، كزيارة صديق في يوم حرٍّ شديد، وأمامك في غرفة اللقاء مُكيَّف الهواء للتبريد مُقفل يُزيِّن جدار الغرفة، هنا يأتي أسلوب اللفِّ والدوران، فتُحدِّث مضيفك عن الجهود الدوليَّة التي تُبذل للحدِّ من أضرار الاحتباس الحراري على البيئة، وأنت تجول بناظريك في جدران الغرفة، فينتبه المضيف إلى ضرورة تشغيل مكيِّف الهواء لتبريد الغرفة، ويقول بأنًّ درجات الحرارة في هذا الصيف هي الأعلى منذ عشرات السنين.

لفٌّ ودورانٌ آخر، عند تسلُّم راتبك الشهري من المحاسب في مظروف، ويقتضي العُرف أن تستلمه بأطراف أصابع اليد، وتضعه في جيبك أو محفظتك، وتنصرف بانحناءة الشكر، وتُلاحظ بعد ذلك أنَّ ما في المظروف مُغاير لما تستحقُّه، في مثل هذه الحالة، تقصد زميلًا مشتركًا لكما في العمل مُقرَّب من المحاسب، تُحدِّثه عن امتنانك لوجودك في مركزك في العمل، بعيدًا عن عمل المحاسبة، لما فيهِ من إرباكٍ عند عدم تطابق الأرصدة وقت جرد الصندوق، هنا يزور الزميل المحاسب مثنيًا على حسن أدائه المحاسبي، مع ما فيه من متاعب عند جرد الصندوق، داعيًا له بالسلامة من عدم تطابق ميزان الجرد.. هنا يُدرك المحاسب أنَّ في هذا اللف والدوران من صديقه، ما يُوجب عليه مراجعة جرد الصندوق، فيكتشف عدم مطابقة استحقاقك لمَّا وقَّعت باستلامه، فيُصحِّح الوضع.

ومَن تَعَامَل مع اليابانيِّين أو أقام في بلدهم يُدرك التزامهم دون لف ودوران بمكارم الأخلاق التي يشتركون معنا في الكثير من مبادئها، فالكذب ليس في قاموسهم، والغش في الكيل والميزان ليس من طبعهم، وحُبُّ الوطن عندهم من الإيمان، وكذا النظافة، والياباني لا يهجع للنوم قبل أن يستحمَّ، أمَّا الحفاظ على الأمن الغذائي فيدفعهم للاقتصاد في استهلاك منتجات تربة بلدهم، ويُدركون أنَّ التعليم سرَّ تفوُّقهم، فيولون أطقم التعليم التقدير والاحترام، وللمتقدِّمين في العمر واجب الرعاية.

كم سيكون مُفيدًا لنا -ونحن نملك حضارة تعود لعشرات الآلاف من السنين- أنَّ نبحث داخل الدول التي تتمتَّع شعوبها بمستوى رفيع جدًّا من الرفاهية، للوقوف على سرِّ تفوُّقهم خلال عشرات من السنين؟.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store