Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (١)

A A
لا ينقضي العجب من عبارةٍ للخليفة المأمون وردت في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، قال فيها: «ولو شاء الله أن ينزل كتبهُ لا تحتاج لتفسيرٍ لَفعَل، ولكننا لا نرى شيئاً من الدين والدنيا دُفِعَ لنا على الكفاية.. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضلٌ، وليس على هذا بنى الله عز وجل الدنيا».

أولاً: تبدو المقولة المذكورة قاعدةً فكريةً متقدمة للتعامل مع كل القضايا المتعلقة بفهم الدين وتنزيل تعاليمه على قضايا الحياة المعاصرة.. فالرجلُ، المعروف بعلمه وحكمته، يؤكد بأكثر من طريقة حاجة الإنسان لبذل الجهد العقلي والبحثي بكل أنواعه للتعامل مع تلك القضايا بما يحقق المُراد من النص.. وبعيداً عن الدخول في تفاصيلَ عن تاريخه واهتمامه بمختلف أنواع العلوم في عصره، تُمكن العودة إليها في كتب التاريخ، يظهر واضحاً أن المقصود بكلمة (التفسير) الواردة في كلامه ليس علم التفسير بمعناه التقليدي..

ثانياً: ما الذي جعلَ، ويجعلُ، مثل هذه المقولات منزويةً محاصرة في كتب التراث؟ ما من أمةٍ وحضارة في العالم والتاريخ إلا ويوجد في تراثها الغثُّ والسمين، وحضارتنا ليست استثناءً في هذا المجال.. رغم هذا، لا يمكن، منطقياً التعامل مع هذا الوضع بمدخل الإلغاء الكامل للتراث المذكور.. لأنه ببساطة، يعني إلغاء التاريخ.

وإذا كانت شرائح كبيرة تنتقد كثيراً مما يوجد في تراثنا، ونحن منهم، وإن كان البعض يفعل ذلك بشكلٍ متطرف، فإن الدراسة تُظهر أن ثمة بقعاً مضيئةً فيه يجب استحضارها واستصحابُها والبناءُ عليها.. لا نتحدث هنا عن الموضوع بشكلٍ عاطفيٍ عابر، وإنما الحديثُ عن منهجيةٍ علميةٍ عميقة مغروسةٍ في صُلب تلك الجوانب من التراث الإيجابي.. منهجيةٍ لم يكن لها أن تُغيرَ، فقط، جزءاً كبيراً من جوانب تاريخنا السلبية.. وإنما، أكثرُ من ذلك، لا تزال صالحةً إلى الآن، كمداخل وقواعد فكرية وشرعية، للتعامل مع قضايا وتحديات وأسئلة مطروحة على الواقع الإسلامي والعربي المعاصر، في غاية الحساسية والضرورة.

لماذا إذاً جرى، ولا يزال يجري، (التعتيم) على مثل تلك الجوانب من تاريخنا وتراثنا؟ ما هي أسباب (الانتقائية) الغريبة التي دفَعت، ولا تزالُ تدفعُ، للتركيز، في أغلب الكتابات والفتاوى والدروس الدينية، على استخلاصات من التراث لا يكون تأثيرها في واقع البشر، مسلمين وغير مسلمين، إلا زيادة الحيرة والفوضى الفكرية، ومعها الأسئلة المعلّقة بدون إجابة، واستمرارُ الدورة السلبية العبثية التي نعيش فيها إلى ما لا نهاية، فكرياً وعملياً؟

ورغم روح التعجب والاستنكار، فإن هذه الأسئلة ليست حصراً من ذلك المنطلق.. وإنما القصدُ منها الإشارةُ إلى ضرورة فتح ملفات دراسة الظاهرة، واستخلاص أسبابها الثقافية والسياسية التاريخية (والراهنة). الأهم من هذا أنها دعوةٌ لجهودٍ واسعة من البحث والتحليل والتقصي والدراسة للإحاطة بكل أدبيات ذلك الجزء الإيجابي من تراث الإسلام.. والأهم من ذلك، إنقاذها من حصار التاريخ، وجَمعها بغرض استعادتها إلى حاضرنا لتكون جزءاً من المنظومة الفكرية والثقافية التي يمكن أن تساعد في الخروج من مآزقنا الراهنة.

وهذه ممارسةٌ تقوم بها، أيضاً، كل الحضارات مهما كان واقعها (متقدماً) بأي مقياسٍ من المقاييس..

تكاد الأمثلة في هذا المقام تستعصي على الحصر، وتستحق شيئاً من الاستفاضة لاحقاً.. ليس فقط لغرابة الظاهرة والحاجة لفهمها، وإنما أيضاً لما فيها من إضافةٍ لحاضرنا ومستقبلنا.

على سبيل المثال، تبدو جليةً آثارُ عقلية ومنهجية (التقليد) التي شلّت حيوية العقل الإنساني في تاريخنا، ولا تزال تفعلُ فِعلها لدى كثيرين في حاضرنا.. بالمقابل، نجد أبو زيد الدبوسي الحنفي في كتابه (تقويم الأدلة) يقول: «أصل التقليد باطل لأن الله رد على الكفرة احتجاجهم باتباع الآباء من غير نظر واستدلال، والمُقلِّدُ في حاصل أمره مُلحِقٌ نفسَه بالبهائم في اتباع الأولاد والأمهات مناهجها بدون تمييز». عمرُ هذا القول من القرن الرابع الهجري، من ألف سنة! يستحق الموضوع بعض استفاضة كما ذكَرنا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store