Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (2)

A A
ثمة مظاهر لا حصر لها توحي للناس بأن الإسلام الذي يعيشونه أقربُ لشرائع الإصر والأغلال التي جاء الدين الخاتم ليرفعها عنهم.. ففي خضم اختلاط المفاهيم والمصطلحات والأولويات، ومع طغيان الحماس باسم الالتزام لدى الكثيرين، يجد المسلمون أنفسهم غارقين في بحرٍ من التشدُد والغلوّ يحيط بحياتهم من كل جانب.

وقد أصبح التنافس في التشديد على الناس سِمةً واضحة في العقود الأخيرة، ليس فقط في بلاد المسلمين، بل حيثما كانوا في هذه الأرض.. وأصبح كثيرٌ من المُفتين ينطلقون في تعاملهم مع الموضوع من مدخل الظن بأن تشدُّدَهم دلالةٌ على زيادة الفقه والعِلم بالدين، الأمر الذي خلق تزاحماً وتسابقاً على تقليص دائرة المُباح وتوسيع دوائر المنع والتحريم.

هنا تبدو، مرةً أخرى، الانتقائية التي نتحدث عن وقوعها عندما يتعلق الأمر بالتراث الإسلامي. أين هؤلاء كلُّهم مثلاً من مقولة الإمام سفيان بن سعيد الثوري، الذي يُوصفُ بأنه «انعقدت له الإمامة في الفقه والحديث والورع»، فيما نقله عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع: «إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيُحسنه كلُّ أحد»! الواضح أن في الأمر مصيبةً إذا لم يسمع هؤلاء بهذه القاعدة الذهبية أصلاً.. أما إن سمعوا بها وتجاهلوها فالمصيبةُ أعظمُ كما يُقال.

«التشديد يُحسنه كلُّ أحد».. لهذا تجد طالب علمٍ في بداية طريق المعرفة يرمي فتاوى التشدد يمنةً ويُسرة في مجتمعه، ببساطة، لأن الأمر سهلٌ ميسور كما ذكر الإمام الثوري.. بل إن الأمر لا يقف عند طلبة العلم المبتدئين، وإنما يشمل، في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية، وفي جالياتهم شرقاً وغرباً، شباباً دخلوا في مرحلةٍ تسمى (الالتزام) في يومٍ ما، لتراهم في اليوم التالي يقلبون حياة أهلهم وأقاربهم وأبناء مجتمعهم أو جاليتهم إلى جحيم من النزاع، حين تُصبح أغلب مناشط الحياة الإنسانية فجأةً، في أنظارهم، حراماً وبدعةً وإثماً وفِسقاً وفجورًا.

هل من أسباب أخرى تؤدي إلى ظهور وتفاقم الظاهرة المذكورة أعلاه في واقع المسلمين؟ نعم.. وأحد أهمِّها يتمثل في الانتشار الكاسح لعقلية التقليد.. إذ يكفي أن يجد طالب العلم المبتدئ أو (الملتزم) حديثاً، أو حتى كثيرٌ من رجال الدين، آلاف الفتاوى والأحكام التاريخية الموجودة في كتب المنظومة الفقهية التقليدية، والتي تصبُّ في خانة التشدد، باسم الورع والتقوى وسد الذرائع وغيرها، حتى يقتنعوا بأنها تنطبق على كل الناس في كل زمانٍ ومكان.

يغفل هؤلاء عن جوهر العلاقة بين مقصد القرآن في جانبٍ معينٍ من جوانب الحياة، وكيفية تحقيق ذلك المقصد مع تغير الزمان والمكان والأحوال.. وهي علاقةٌ مُفعمةٌ بالحيوية والحركة والتحفز النفسي والفكري على الدوام.. في حين يُضفون عليها قالباً زمنياً محدداً يقتل كل ما فيها من حيوية.

يجهل هؤلاء أيضاً، أو يتجاهلون، قول الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين: «ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضلَّ وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم».

كيف كان لواقع المسلمين أن يصبح لو أن كثيراً ممن يُسمون أنفسهم، ويُسميهم الناس، «عُلماء»، فَهموا مقولة ابن القيم وطبقوها في ممارساتهم العملية؟ المفارقة أن الرجل لا يقتصر على وصف التقليد في الفتوى بأنها تُعبّرُ عن الجهل، بل إنه يذهب إلى حدِّ وصفها بالجناية.. أكثرُ من هذا، يُعطي الجناية المذكورة درجةً في السوء أعلى من طبيب يستخدم ممارسةً شبيهةً لتسهيل المقارنة، لأن من البدهي أن قيام الطبيب بذلك يُعتبر حتماً نوعاً من الجنون الذي يفتقد كل مسؤوليةٍ وأمانة.

انتقائيةٌ أم جهلٌ مُطبقٌ هذا الذي يجري في التعامل مع تراث المسلمين؟ الإجابة مخزيةٌ في الحالتين.. لهذا تستدعي المزيد من العرض والتحليل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store