Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (3)

A A
يعرف المسلمون جميعاً، نظرياً على الأقل، أن أقوال البشر، أياً كانوا، ليست كلاماً مُنزلاً من السماء.. لكن الحساس في الموضوع يكمن في الاتفاق على قاعدةٍ أساسية: إن تركيز غالبية الفقهاء والعلماء على مدى التاريخ يتعلق بالتعامل مع مشكلات وأسئلة وقضايا زمانهم ومكانهم.. هذا على وجه التحديد ما كان يقصده ابن القيم فيما نقلناه عنه في الجزء السابق من هذا المقال.

من هنا، يمكن أن نرى في عطاء أولئك الفقهاء والعلماء، ومنهم ابن القيم نفسه، ما يصلح للاستفادة منه حين يتعلق الأمر بمشكلات وأسئلة وقضايا زماننا ومكاننا، تماماً كما نجد فيها ما لا يصلح، لأنه كان يعالج شأناً له خصوصية عصرٍ معين ومجتمعٍ معين.

بشيء من البحث، نجد أن الأمثلة من النوع الأول أكثرُ حين يتعلق الأمر بقواعد عامة للتفكير والاجتهاد والاستنباط وَرَدت في المصنفات التاريخية.. في حين أن كثيراً من الفتاوى المتعلقة بمسائل فردية ومحددة وآنيّة تقع في خانة النوع الثاني.

كلام ابن القيم المذكور يأتي في إطار تلك القواعد، لهذا يبدو جلياً كيف تُمكن الاستفادة منه في معالجة شؤون الواقع المعاصر، لو شاعَ العمل به! وقد استفاض الرجل في بحث الموضوع من عدة جوانب.. فهو يقول مثلاً في موقعٍ آخر: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها.. فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخِلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلّهُ في أرضه، وحكمتُه الدّالةُ عليه».

لا يكتفي ابن القيم بذكر المكونات الأساسية التي تشكل جوهر رسالة السماء إلى البشر: (العدل) و(الرحمة) و(المصلحة) و(الحكمة) بشكلٍ مجرد، وإنما يشرحها بتوضيح ما هو ضدّها من القيم (السلبية) التي تنتج عن تركها أو التلاعب بها، وذلك كما قالت العرب: «وبِضِدِّها تتميزُ الأشياء».

أكثر من هذا، وإدراكاً من الرجل للإشكالية الكبرى التي يمكن أن تنتج عن العملية المذكورة، يُطلق حُكماً في غاية الحساسية والخطورة يترتب على حصول ذلك التلاعب من قِبل أي إنسان، والأصل هنا أن المخاطبين المباشَرين هم الفقهاء والعلماء.. فهو يؤكد، دون تردد، أن أي ممارسةٍ نظرية وعملية يتحصلُ منها انقلابُ العدل إلى الجور، والرحمةِ إلى ضدها، والمصلحة إلى المفسدة، والحكمة إلى العبث، تجعل تلك الممارسات «ليست من الشريعة وإن أُدخِلت فيها بالتأويل»!!.

والحقيقة إن مثل هذه النصوص (القواعدية) لا تحتاج فقط إلى نَفض غُبار (التعتيم) الغريب الذي يُمارس تجاهها.. وإشاعتها بكل طريقةٍ ممكنة.. وإنما تحتاج، فوق ذلك وأكثرَ منه، إلى مزيدٍ من الدراسة والبحث والتحليل العلمي.. فابن القيم، على سبيل المثال، وحين يتعلق الأمر بمثل هذه القواعد الكلية، يبدو على درجةٍ من الانشغال بها، تكاد صيغتها توحي بالذعر الشديد على ما قد يصيب المسلمين من إهمالها. وبتحليل بسيطٍ بأدوات علوم اللغة والاتصال البشري، يبدو انتقاؤهُ للمصطلحات والتعابير وتركيب الجمل والفقرات، وطريقة الصياغة بشكلٍ عام، مدروساً جداً ومقصوداً جداً للتحذير من الإهمال والفوضى في التعامل مع المعادلة التي يرسمها بدقة.. بل كأنه، بمصطلحات عصرنا، يشعل ضوءاً أحمر فاقعاً للتنبيه إلى ما يمكن أن يقع فيه المسلمون حالَ نسيان تلك القواعد والتقصير بها والإعراض عنها.

ثمة إمكانية لاستعادة مثل تلك القواعد لتحكم واقع المسلمين وطريقة فهمهم للدين، رغم صعوبة المهمة.. لكن أحد الحوافز الأساسية يكمن في رؤيتنا الواضحة لطبيعة وحجم الكوارث الفكرية والاجتماعية (والحضارية) التي حصلت في تاريخ المسلمين، عندما وقعوا فيما حذَّرَ ابن القيم من الوقوع فيه قبل أكثر من ستة قرون!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store