Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

سيطرة أم بعثرة ؟!

A A
أحتاج إلى أصغر أفراد الأسرة للتعامل مع أحدث مفردات التقنية، فكلاهما من نفس الجيل، وبقدر ما يُسعدني ذلك، بقدر ما يُخيفني بشأن المستقبل، فالمسافة تتسع بيني وبين تقنيات؛ باتت جزءًا من الحياة اليومية لأبنائي، وبفعل هذه التقنيات أصبحت لهم لغتهم الخاصة، بمفردات شبه عالمية، وأصبحت الثقافات واللغات التي لم تُسهم بنصيب في إبداع وإنتاج التقنيات، عبئًا على أصحابها.

لن أُرهق ضمائركم بالحديث عن تقاعس العرب عن الإسهام بنصيبٍ لائق في ثورة تقنيات الاتصال، فأغلبهم يتباهون بكونهم مِن مستخدميها، فيما يذهب فريق منهم إلى الاعتقاد بأن الله قد سخَّر لنا شعوبًا متقدمة تُبدع وتُنتج تقنيات متطورة؛ تجعل حياتنا أبسط، ووقت فراغنا أطول!!.

لكنني مشغول بمكانتنا فوق خارطة تتبدَّل تحت أقدامنا، إذ لم يعد اتساع الخارطة دليلًا على اتساع حصتنا من الثروة، بعدما أصبحت المعرفة وحدها هي المصدر الرئيس للثروة، وتكفي أيًا منكم نظرة على مؤشر ناسداك الأمريكي، أو نيكاي الياباني، ليعرف أن مَن يتصدَّر المؤشر هي شركات تبيع الأفكار بعد تعبئتها في شرائح بالغة الدقة، ضمن برمجيات أو تطبيقات، لم يعد بوسع أحد في العالم الحياة بدونها.

أخطر ما يمكن أن تصنعه تقنيات الاتصال من تحوُّلاتٍ كبرى في خارطة كوكبنا، بتنا نعيشه بالفعل، فالحراك الإقليمي بمنطقتنا والذي انطلق قبل ثمانية أعوام تحت مُسمَّى (الربيع العربي)؛ ليس سوى أحد تجليات أو تداعيات أو توابع ثورة تقنيات الاتصال، والحراك الذي يُوشك أن يُمزِّق الاتحاد الأوربي تحت وطأة محنة خروج بريطانيا إثر استفتاء بريكست، ليس سوى بعض تجليات تلك الثورة التقنية، بل إن تراجع أو انحسار (الكاريزما) بمعناها التاريخي، يعود إلى دور لعبته تقنيات الاتصال في تبديد أو صناعة الأوهام بشأن شخصيات كان يمكن أن تكون كاريزمية لو أُتيح لها بعض الغموض البنَّاء، لكن تقنيات الصورة والميكروفون، بدَّدت الأوهام، وكشفت ما لم يكن ممكنًا كشفه في غيابها.

الشعبوية، أحد تجليات ثورة تقنيات الاتصال، كانت وراء محنة (بريكست) في بريطانيا، وهي الآن وراء محنة إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية (shutdown) بسبب حالة عناد حادة بين الكونجرس وبين الرئيس الأمريكي ترامب الذي حملته إلى البيت الأبيض موجة شعبوية راحت تتغذَّى وتكبر بتغريداته عبر (تويتر).

الحضارة التي أنتجت تقنيات الاتصال الفائقة السرعة، باتت هي ذاتها مُهدَّدة بفعل تلك التقنيات، فبقدر ما أسهمت تلك التقنيات في إلغاء حواجز الزمن والمسافة، بقدر ما أسهمت في كشف مقدار التمايز الثقافي والفكري والمعرفي والعرقي داخل جماعات إنسانية كانت تبدو متحدة، إلى أن كشفت تقنيات الاتصال فداحة انقسامها.

بريطانيا التي تمزق أوراق عضويتها في الاتحاد الأوربي، ليست لديها ضمانة أكيدة، بأن التمزق لن يطال علاقتها بأسكتلندا، أو بأيرلندا، بينما توشك عدوى بريكست على الانتقال إلى الجوار الأوربي، في دولٍ لم تعد حصينة ضد أفكار تحملها تقنيات الاتصال العابرة للحدود، والكاشفة للهويات.

أبعد الدول عن التمزُّق تحت وطأة موجة شعبوية تحملها تقنيات الاتصال، قد تكون الصين، وعاء الجغرافيا محكم الجدران، الذي أنتج هوية حضارية عصية على التمزُّق، استطاعت حماية نواتها الصلبة عبر قرون موغلة في القِدَم، دون انقطاع طويل عن الجذور.

شكل خارطة العالم قد يتبدَّل، في ضوء تلك الرؤية، فتقنيات الاتصال المتطورة الصانعة للوحدة والمقربة للمسافات، قد تصبح هي بذاتها الكاشفة للتمايز والاختلاف بين الثقافات الخاصة جدًا لمجتمعات كانت تبدو لنا موحدة ومنسجمة.

أكثر الدول القابلة للاستمرار، والقادرة على صيانة وحدتها ضد تقلبات تصنعها تقنيات الاتصال المتطورة، هي في الغالب، تلك الدول القديمة التي أقامتها شعوب الحضارات النهرية العريقة، تتقدَّمها الصين بالطبع. أما أخطر الانقلابات التي دبَّرتها تقنيات الاتصال فقد وقعت في الصين ذاتها قبل أقل من ثلاثين عامًا، عندما خرج عشرات الآلاف من الصينيين إلى ساحة تيانمن، مطالبين بالحرية، واعتصموا حول تمثال أقاموه للسيدة (ليبرتي)، يومها اتخذت الصين قرارها بسحق الاحتجاجات، وصمت آذانها عن الانتقادات الحقوقية الأمريكية، لكنها اتخذت قرارها بتغيير الحياة في الصين، التي خرجت من الأزمة أكثر قوة، بفعل إرثها الحضاري الجامع لأطرافها مهما نأت.

تأثيرات ثورة تقنيات الاتصال على تصاعد موجات شعبوية في مختلف مناطق العالم، قد نلحظها خلال الأعوام القليلة المقبلة، لكن جهدًا معرفيًا، وسياسيًا، قد يُصبح ضروريًا للجم موجات تشظي قد تطال كيانات كانت تبدو عصية على الانقسام.

الذين أنتجوا تقنيات الاتصال ظنوها أدوات سيطرة، لكنها بتداعيات التأثير، توشك أن تكون أدوات بعثرة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store