Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٤)

A A
كم مسلماً يعرف أن ثمة كتاباً للعالم جلال الدين السيوطي، كتبه منذ خمسة قرون، بعنوان: «كتاب الردّ على من أخلدَ إلى الأرض وجَهِلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض»؟!

يبدأ الرجل كتابه في أول صفحةٍ، بعد مقدمةٍ قصيرة، بالقول: «.. وبعد، فإن الناس قد غلبَ عليهم الجهل وعَمَّهم، وأعماهُم حبّ العناد وأصمَّهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدُّوهُ مُنكراً بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجَهَلة أن الاجتهاد فرضٌ من فروض الكفايات في كل عصر، وواجبٌ على كل زمان أن يقوم به طائفةٌ في كل قُطر، وهذا كتابٌ في ذلك سميته الإخلاد إلى الأرض...».

الواضح أن ثقافة التقليد تشكّلت منذ قرون طويلة، وإلا لما اشتكى منها السيوطي في القرن العاشر الهجري، ولم يكن له أن ينبري ليخطَّ كتاباً كاملاً في الموضوع لولا رؤيته للتأثير السلبي العملي الذي ينتج عن منهج التقليد في زمنه.

كيف تكوّنت الثقافة المذكورة؟ وما هي العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية التي أنتجتها؟ هذه أسئلةٌ مشروعة يجب البحث عن إجاباتٍ علمية عليها، لأن ثقافة التقليد خنقت على مر العقود السابقة، ولا تزال تخنق، المسلمين وواقعهم، فوق أنها تُكبلُهم بكل أنواع القيود لتعيق صناعة أي مستقبل..

من هنا، فإن وجود دراسات جدية بهذا الخصوص يجب أن تكون أولوية.. إذ إن إشاعة الحديث حول ما يوجد في التراث من إيجابيات بهذا الخصوص ليس كافياً على الإطلاق، وإن كان من الممكن البناء عليه بشكلٍ من الأشكال.. والأولويةُ التي نتحدث عنها عمليةٌ بكل المعاني وليست نظريةً أو نوعاً من الترف الفكري، لأنها، بمقاييس عديدة، تكاد تصبح قضية حياةٍ أو موت بالنسبة لمجتمعات كاملة.

سنعود، في الجزء القادم من هذا المقال، إلى تحليلٍ حول هذا الموضوع، باختصار لا يسمح بغيرهِ مقامُ المقال الصحفي.

ولنكون منصفين هنا، يجدر التأكيد بأن ثمة جهوداً بُذِلت في هذا الإطار، خلال السنوات الماضية، نتج عنها دراساتٌ وكتب وأبحاث تستحق بدورها أن (يُشاع) الحوار حولها أيضاً، لأنها بدورها تتعرض لأشعة حرمان ومقاومة، مرةً أخرى بدعوى الخوف على الدين وكل ماله صلةٌ بهذه الجملة من دعاوى ومقولات.. لا يمكن لأحدٍ الادعاء بأن أي نتائج وصلت إليها الأعمال المذكورة هي (الصواب) و(الحقيقة)، فهذه سذاجةٌ في التصرف مع هذا الموضوع الجدّي لا مكان لها في هذا المقام.. لكن باحثين ومفكرين وخبراء أنفقوا زمناً وجهداً مقدّرين في التنقيب والبحث والتحليل في هذا المجال، بحيث يُصبح منهجياً البدءُ بها بدلاً من نقطة الصفر وإعادة اختراع العجلة، كما يقولون.

المفارقة أن بعض هذا العطاء متوافرٌ لمن يبحث عنه لأنه موجودٌ في كتب وأبحاث منشورة أو مسموعة ومرئية، لكن توسيع دائرة التنقيب ستكشف مصادر أخرى لديها عطاءٌ متقدم تنبغي إشاعته أيضاً وإدخاله في دائرة الاعتبار للدراسة والبحث.. فحساسية المسألة وتأثيرها السلبي يفرضان نفسيهما عملياً في واقع المسلمين في أقطارهم وتجمعاتهم في باقي أنحاء العالم.. والتحديات التي تُثيرها لم تعد خافيةً على مَن لديه أقل اهتمام بالموضوع، فكيف الحالُ مع عشرات، وربما مئات، من عقول مهمومة به وعاملة عليه، لا تعدَمُ أمةٌ وجودها.

من هنا، تأتي ضرورة أن يكون العمل في هذا المجال مؤسسياً بكل معنى الكلمة.. ذلك أن الجهود الفردية تحمل دوماً احتمالية التقلب بين الصواب والخطأ أكثرَ من الجهود المؤسسية.. هذا فضلاً عن أن تأثير وفعالية الجهد الجماعي، وإمكان قبوله وشيوعه، أكثرُ منها بكثير مقابل العمل الفردي الذي يمكن لأي إنسانٍ التشكيك به، خاصةً في عصر التشويش وفوضى وسائل ومنابر التواصل الذي نعيشه هذه الأيام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store