Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٥)

A A
من المؤكد أن ملامح ثقافة التقليد كانت تفرض نفسها بقوةٍ بين فترةٍ وأخرى. وهذا سبب ظهور علماء، على مدى القرون، يشتكون منها بصراحة، وينبهون بتكرار إلى ضرورة تجنبها. لكن، كما تساءلنا في الجزء السابق: كيف تكوّنت الثقافة المذكورة؟ وماهي العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية التي أنتجتها؟

ثمة وفرةٌ في تحليل الموضوع خلال العقود القليلة الماضية. ورغم وجوده، والخطورة الشديدة لدلالاته، ومايقتضيه هذا من ضرورة الوقوف عنده، لمراجعة تراثنا بمجمله، إلا أن المسلمين يبدون ذاهلين عن حساسية هذه المسألة فيما يتعلق بحاضرهم ومستقبلهم، وربما أصلِ وجودهم.

نستشهد هنا بما طرحه، بسهولةٍ ووضوح، الشيخ السيد سابق في تمهيد كتابه (فقه السنة) قائلاً: «فلما جاء أئمة المذاهب الأربعة.... بذل هؤلاء الأئمة أقصى ما في وسعهم لتعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به، وكانوا ينهون عن تقليدهم ويقولون: لا يجوز لأحدٍ أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، وصرّحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح، لأنهم لم يكونوا يقصدون أن يُقلَّدوا كالمعصوم (صلى الله عليه وسلم)، بل كان كل قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله. إلا أن الناس بعدهم قد فترت هِمَمُهم، وضعفت عزائمهم، وتحرّكت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهبٍ معينٍ ينظر فيه، ويُعوّلُ عليه، ويتعصبُ له، ويبذل كل ما أوتي من قوة في نصرته، وينزل قول إمامهِ منزلةَ قول الشارع، ولا يستجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطهُ إمامُهُ، وقد بلغ الغلوُّ في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخيّ: كل آيةٍ أو حديثٍ يخالف ما عليه أصحابُنا فهو مؤولٌ أو منسوخ. وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله، ولا يُعتدُّ بفتاويه. وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية، ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهبٍ أو مذاهب معينة، فكان ذاك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظةً على الأرزاق التي رُتِّبت لهم!».

ثمة أسبابُ أخرى، بطبيعة الحال، سياسية وثقافية واجتماعية، لظهور واستمرار منهجية التقليد. لكن هذا التحليل وحدهُ يكفي لإدراك أن ثمة أمراً (خاطئاً) حصل في تاريخ المسلمين. نعم، أمرٌ له أسبابه، والتاريخ شيءٌ لايمكن تغييرهُ. لكن ما يمكن، ويجب أن يحصل، بجديةٍ يقتضيها المقام، هو الوقوف بقوةٍ وصراحةٍ ووضوح أمام ذلك الخطأ. أكثر من ذلك، لابد من الجرأة في تغيير كل ما يجبُ تغييره مما ترتبَ على الخطأ المذكور. سواءَ تمثَّلَ هذا في الانتقال الشامل من منهجية التقليد إلى كل ما يمتُّ بصلة لمنهجيات الاجتهاد والتجديد بكل أدواتها المعاصرة الممكنة. أو في ترك النتائج والمعطيات النهائية لتلك المنهجيات، أي الفتاوى والأحكام المُتعلقة بها، بحيثُ تَرتبط حصراً بزمانها وواقعها المحدَّدَين، ويتمَّ (إلغاؤها) كلياً من خانة التراث الإيجابي الذي يُستفاد منه في هذا العصر.

ورغم أن هذه الممارسة المطلوبة تُعتبر نتيجةً منطقيةً طبيعيةً، بكل المقاييس، لتجاوز عقلية التقليد ومنهجه، يبدو الإعراضُ الجمعي عنها بين الغالبية العظمى من المسلمين أشبه بإصرارٍ على عملية انتحارٍ جماعي؛ سببه الوحيد أوهامٌ تدّعي الخوف على الإسلام إن تم مسُّ شعرةٍ من التراث!

المفارقة أن ثمة مصالح اقتصادية تمت الإشارة إليها في النقل المذكور أعلاه. وهي فيما يبدو لاتزال تلعبُ دورها بشكلٍ كبير، قد يكون مختلفاً في طبيعته لكن جوهرهُ واحد. ويتمثل في قصةٍ مُعبِّرة أنهى بها السيد سابق كلامه، تتعلق بإعراض أحد العلماء الذين امتلكوا نصاب الاجتهاد عن ممارسته، وأسبابِ ذلك، قال فيها: «سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي، عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلاّ للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإن خرج عن ذلك لم ينلهُ شيء، وحُرِمَ ولاية القضاء، وامتنعَ الناسُ عن إفتائهِ، ونُسِبَتْ إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقهُ على ذلك».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store