Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

عن توابع الحريق العربي

A A
لا أعرف أن خصومة يمكن أن تنشأ، ما بين المنطق، وما بين الحساب، لكنها مع ذلك، نشأت وترعرعت في بساتين وحقول ما يُسمَّى بالربيع العربي.

قبل ثماني سنوات، حملت الصفحة الأولى بصحيفة (المصري اليوم)؛ صور شباب وشابات قالت عنهم إنهم (الورد اللي فتح في جناين مصر)، ولكن بعد مرور ثماني سنوات، باتت الصور والرموز نفسها لا تحمل عند غالبية المصريين، أي دلالة لا عن ورود تتفتح، ولا عن جناين ارتوت بدماء ضحايا أو شهداء.

ففي الذكرى الثامنة لـ(أحداث) يناير، جرى الاحتفال في مصر بعيد الشرطة، دون إشارة إلى أنه (أيضًا) عيد الثورة التي اندلعت في اليوم نفسه قبل ثماني سنوات، ووسط إلحاح من البعض على فكرة أن ما جرى كان مؤامرة؛ وصفوها بأنها «صهيو-أمريكية»، استهدفت تفكيك وتفتيت المنطقة -بدعوى أطلقت عليها «كوندليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك «الفوضى البنَّاءة»- تحوَّل هؤلاء الشباب والفتيات بنظر البعض، إلى متآمرين على الوطن، أو إلى مغفَّلين في أحسن الأحوال، وبات الدفاع عن يناير كثورة، أو حتى غضبة مستحقة، مثار استنكار في أوساط الشارع العربي في الدول العربية كافة التي اجتاحتها رياح ما سُمِّي بـ»الربيع العربي».

التقيتُ نازحين ليبيين في مرسى مطروح غرب مصر قرب الحدود مع ليبيا، كانوا بين من احتفلوا بالثورة ضد القذافي، لكنهم سرعان ما عضوا بنان الندم، بفعل ما جرى لاحقًا في بلادهم، والتقيتُ سوريين كُثرًا في مدينة السادس من أكتوبر جنوب غرب القاهرة، بعدما حوّلتهم رياح الربيع العربي إلى لاجئين في شتى بقاع الأرض، اعترفوا لي أن عوامل السخط ضد النظام كانت كبيرة، لكن ما تشهده بلادهم من دمار الآن أكبر وأخطر بكثير.

أجواء ندم عام سادت وتسود الدول كافة التي شملتها أحداث ما سُمِّي -قبل ثماني سنوات- بالربيع العربي.

سألني أحد وجوه الشتات العربي من ضحايا الربيع: بماذا تصف ما جرى في بعض الدول العربية قبل ثماني سنوات؟!

قُلت له: هي بحسب الدوافع ثورة، وبحسب المآلات كارثة، وإذا كانت الدوافع هي مناط المشروعية، فإن ما جرى كان غضبًا مشروعًا، أما إذا كانت المآلات هي مناط التقييم، فإن ما جرى هو غضب مجنون، جرى بغير حساب، ودون تفكير، أو تدبير، أو وعي.

هذا الالتباس حول هوية ما جرى قبل ثماني سنوات، له إذن ما يُبرِّره، وله أيضًا ما ينبغي أن يُحرِّك مؤسسات الفكر ومراكز البحث، إلى العمل من أجل تقصِّي أسبابه، وإجلاء حقيقته.

هل هو مؤامرة خارجية؟ أو أنه انفجار ذاتي الدوافع؟! أو هو مؤامرة استثمرت عوامل الانفجار الذاتي لتفجير المنطقة برمتها؛ من أجل إعادة تركيبها وفق تصوُّرات وأهداف مَن استثمروا عوامل التفجير الذاتي عندها؟!

في كل الأحوال، فقد وقع الانفجار، وفي كل الأحوال أيضًا، فقد جرى استثمار الانفجار من قبل قوى دولية وإقليمية لإعادة رسم خرائط الإقليم، لكن أخطر توابع ما جرى على الإطلاق، ربما يكون ما لحق بفكرة (التغيير) من شُبهات، بعدما أصبح طلاب التغيير؛ إما أنهم متآمرون جرى تأهيلهم وتمويلهم بمعرفة قوى خارجية معادية، وإما أنهم مُغفَّلون جرى استغلالهم من قوى بالخارج وأُخرى بالداخل، تحت شعارات مُضلِّلة، بعضها ديني، وبعضها طائفي، وبعضها سياسي.

أخطر توابع المشهد الإقليمي الجاري منذ عام ٢٠١١، هو الإدانة التي لحقت وما زالت بفكرة التغيير، والعزلة التي طالت وتطول القوى المطالبة به، والندم الذي خلفته توابع ذلك المشهد على الأصعدة كافة، وبين مختلف الأطراف.

ألم أقل لكم في مقدمة هذا المقال، أن ما يجري في بساتين الربيع العربي منذ عام ٢٠١١، قد كرَّس خصومة ما بين المنطق، وما بين الحساب، انتفت معها أي علاقة بين فكرة الثورة، وفكرة النهضة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store