Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٦)

A A
ماذا يعني التقليد أصلاً؟ يعني انفصالاً عن الواقع والحاضر، عن زمانك ومكانك المعينين، وإصراراً على العيش إما في الماضي، أو في واقعٍ آخر لا صلة له بواقعك.. يعني الزهد فيما هو جديدٌ في هذا العصر من أساليب ووسائل وعلوم في جميع المجالات، وفقدان أي فرصةٍ تكمن فيها لتحقيق مقاصد الوحي في الدنيا والآخرة.. يعني كبح إرادتك عن التطور والتقدم والنمو والارتقاء إلى ما يمكن أن يمثل مقومات إنسانيتك الأكثر سمواً.. يعني غرقك في الكسل الذهني والعملي، واعتمادك الكلي على إنسانٍ آخر، عاشَ في زمنٍ آخر، لتحديد طريقة حياتك اليوم، على طريق المحاولة المستمرة للوصول إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.. يعني قتلَ كل الحيوية النفسية والفكرية التي غرسها المولى فيك لتصل إلى فهم هذه الدنيا المُفعمة بكمون الخير وتستخرجه منها وتعيش فيه.

هل يدرك الكثيرون من المسلمين أن التقليد يعني كل هذا وأكثر؟ هل يعلمون أن التقليد ليس مجرد منهجٍ نظري لفهم الإسلام وتطبيقه فقط، وإنما هو انتحارٌ عملي، أو على الأقل انزواءٌ مذعور على هامش التاريخ والحياة؟ هل يستوعبون أن التقليد، في معناه الجوهري، يمثل إعلاناً للاستقالة من تبليغ الرسالة، بل ربما من الإسلام نفسه في بعض الأحيان؟

يُلامُ تراثنا مراراً فيما يتعلق بهذا المجال.. والحقيقةُ تقتضي الاعتراف بأن فيه الكثير مما قد يكون سبباً فيما وصلنا إليه حين يتعلق الأمر بالتقليد وغيره من المشكلات.. قلنا هذا ونكرر قوله على الدوام.. لكنها الانتقائيةُ مرةً أخرى.. وتحديداً الانتقائية لما هو سلبيٌ في ذلك التراث، بشكلٍ غريب ومريب، وحصرُ التراث (والإسلام نفسه) في مُعطيات تلك الانتقائية السلبية.

استشهدنا بأقوال ابن القيم في بداية هذه السلسلة.. وذكرنا في معرِضها أن لديه آراء أخرى، في مواضيع معينة، قد لا تصلح لهذا العصر والزمن.. لكن الرجل أدرك، منذ قرون، كثيراً من المعاني والدلالات العملية الخطيرة للتقليد، مما ذكرنا بعضهُ أعلاه، ولهذا قال مخاطباً العلماء والفقهاء: «فمهما تجدد العرف فاعتبرهُ، ومهما سقط فألغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك.. بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجرِهِ على عُرفِ بلدك، وسَلهُ عن عُرفِ بلده فأجرِهِ عليه وأفتِهِ به، دون عُرف بلدك والمذكورِ في كتبك.. قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».

المشكلةُ أن مثل هذه النقولات تُتداول أحياناً هنا وهناك، والأغلب أن يكون هذا بين المشتغلين بالعلوم الشرعية وطُلابها.. لكنك قلما تجد، إن وجدتَ أصلاً، وقوفاً عند دلالاتها بشكلٍ تحليلي عميق، يستخرج مستخلصاتها التي يمكن أن تُحدث انقلاباً في فهم الإسلام.. ويُمكن أن ينتج عنها، بالتالي، انقلابٌ في الحياة العملية للناس في هذا الزمن، بحيث تُصبح حياةً طيبةً طبيعيةً مُحررةً من كل معاني الإصرِ والأغلال التي أعادها كثيرٌ من الفقه التقليدي لتُصبح القاعدة في حياة الناس، والذين يرغبون منهم في الالتزام بالإسلام على وجه التحديد.

بطبيعة الحال، ثمةَ شرائحُ، تتزايد عدداً، وبشكلٍ يجب أن يُدرس.. ممن خَنَقَهُم الفهم التقليدي المذكور، حتى وصلوا لنتيجةٍ تتمثل في استحالة إمكانية استمرار حياةٍ طبيعيةٍ داخل إطار ذلك الفهم.. وقد يكون من المسكوت عنه أن غالبية هؤلاء لم يصبحوا ضالين مُضِلين مفسدين في الأرض، كما قد يكون شائعاً في بعض الأوساط.. بل إنهم باتوا يعيشون حياةً طبيعيةً طيبة، وهم يتحركون على الأرض بأخلاق حميدة جُبلت عليها طبيعة الإنسان، إضافة لكل تأثيرٍ إيجابيٍ سابق لازال يحكم تفكيرهم وحياتهم من أيام (التزامهم) بالإسلام كدين.

من السفهِ بمكان الظنُّ بأن كلامنا يحمل دعوةً لترك الالتزام بالإسلام ليعيش المرء حياةً طبيعية.. فكل ما في المقال، في ستة أجزاءٍ حتى الآن، ينسف ذلك الظن ابتداءً.. لكن تجاوز التقليد، كمنهجٍ لفهم الإسلام والعيش وفق تعاليمه، يحمل في طياته إمكان توسيع دوائر الحياة الطبيعية الطيبة لكل الناس، مع توسيع دوائر الخير الممكن إنجازه للبشرية.

من هنا، لابد من الوقوف عند الدلالات المُعبّرة لكلام ابن القيم، لكننا نؤجل ذلك إلى الجزء القادم تجنباً للإطالة في هذا المقام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store