Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

شعبويتنا.. وشعبويتهم!!

A A
بيوتنا من زجاج، هكذا قادتنا تقنيات التواصل إلى ساحات الانكشاف، حيث اكتشفنا مقدار الاختلاف، حتى بين مَن يعيشون تحت سقف واحد.

تقنيات الاتصال المفرط، قادتنا إلى ساحات الاختلاف المفرط أيضًا، وهناك انفرط رباط؛ ظنَّه الأولون مقدسًا، عصيًا على التفكيك، فإذا بفرط المعرفة، لا تنتج الوحدة بقدر ما تنتج الانقسام.

الشعبوية الجديدة، التي تعبث بالعالم قرب قمته، هي -في ظنِّي- إحدى منتجات فرط الاتصال، وفرط المعرفة، وفرط الانكشاف، وما وصلنا من نتائجها قد لا يكون سوى النذر اليسير مما تخبئه المقادير.

لاحظوا معي، أن الشعبوية الجديدة قد استهلت عملها، وأسفرت عن بعض وجهها، في المجتمعات الأعمق اتصالًا بالتقنية، فهي في الولايات المتحدة قد حملت ترامب إلى البيت الأبيض، وهي في بريطانيا قد حملت المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وهي في فرنسا قد حملت ذوي السترات الصفراء إلى شوارع باريس، وهي في إيطاليا تُوشك أن تحمل روما بعيدًا عن الاتحاد الأوربي، أما داخل الاتحاد الأوربي ذاته، فثمة نذر لانقسام شعبوي الدوافع أيضًا، مع عودة مخاوف كامنة من هيمنة ألمانية على القرار الأوربي، تُعزِّزها توجُّهات أمريكية لرفع المظلة الأمنية الأمريكية عن أوربا، تحت وطأة ضغوط شعبوية أمريكية أيضًا.

منطقة الشرق الأوسط، ليست بمنأى عن تأثيرات التيارات الشعبوية في أمريكا وأوربا الناجمة عن فرط التواصل، وعن فرط المعرفة، لكن الشعبوية عندنا قديمة مختلفة المنشأ، وإن شئنا التمييز بين شعبويتهم، وبين شعبويتنا، فإن الأولى هي شعبوية ما بعد الدولة الحديثة، أما الثانية، فهي شعبوية ما قبل الدولة، شعبوية التعصب للقبيلة، والعرق، والجنس، والنوع، واللون.

منطقتنا، بهذا المعنى، قد لا تكون مرشحة للدخول في طور الشعبوية الجديدة، لأنها ببساطة، لم تخرج بعد من طور الشعبوية البدائية القديمة، ولم تدخل بعد في طور الدولة بمعناها التقليدي، الذي استقر عليه العالم، منذ صلح ويستفاليا قبل أكثر من أربعة قرون.

منهج تعامل إدارة ترامب، مع ملف فنزويلا، هو أحد تجليات الشعبوية الجديدة في أمريكا اللاتينية، في ذروة تنافس دولي حقيقي على مقعد القيادة لنظامٍ دولي جديد، لم تتبلور ملامحه النهائية بعد.. فثمة تحالف لاتيني تقوده الولايات المتحدة لتغيير القيادة في فنزويلا، صاحبة الاحتياطي النفطي الأكبر في العالم، التي ألقت بها سياسات الحصار إلى جوف الفقر.

الشعبوية الجديدة، حملت معها ملامح صراع دولي جديد، على الثروات الطبيعية والأسواق، فوق خارطة جديدة للعالم، تشهد سباقًا محمومًا بين الولايات المتحدة والصين بصفة خاصة.

الأولى (الولايات المتحدة) كانت تظن، قبل أكثر من ربع قرن، أنها قد بلغت غايتها، في الانفراد بزعامة النظام الدولي بعد سقوط جدار برلين قبل ثلاثين عامًا، وتكريس شعار السلام الأمريكي (Pax Americana).

والثانية (الصين)، مازالت تُراهن على قدرتها على اعتلاء مقعد زعامة النظام الدولي، بحلول العام ٢٠٣٠، تحت شعار يحمل وجهًا تجاريًا خالصًا، يستمد مشروعيته من تاريخ قديم، ويقطع رحلته عبر (طريق الحرير) بمبادرة صينية عنيدة ضمن مشروع (الحزام والطريق).

شعبويتهم، تستدعي ماضيًا استعماريًا، كف العالم عن أن يراه بغيضًا، وشعبويتنا تغوص بنا في عصر ما قبل الدولة، مستغرقين في الغيبيات، دون أدنى مشاركة تُذكر في إنتاج الأفكار، أو إبداع التقنيات.

العالم الذي تمزقه -في اللحظة الراهنة- تقنيات فرط الاتصال، أشد خطرًا بكثير من عالمٍ وحَّدته المخاوف في السابق، وقرَّبت الأفكار بين سكانه.

استعادة الدفء الحضاري المتلفّح بفلسفاتٍ إنسانية جامعة، هو مهمة النخب في المجتمعات المتقدمة، التي تُوشك الشعبوية الجديدة على أن تعصف بها، أما مهمة النخب عندنا في العالم الثالث، فهي إقامة الدولة الحديثة، التي تصون الحريات الأساسية، وتُشجِّع الإبداع الإنساني في كل المجالات الفكرية والتقنية.

شعبويتهم سوف يهزمها وعي الشارع، الذي ترعرع على مدى أكثر من أربعة قرون، منذ دافنشي، وحتى دريدا، مرورًا بفولتير ومونتسكيو، وهيجل وماركس وآدم سميث، أما شعبويتنا، فيهزمها الدخول في عصر الدولة من بوابة الفكر، والعلم، والحريات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store