Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٨)

A A
لماذا يستمر التقليد منهجاً للتفكير والحياة في عالم المسلمين اليوم؟ الأسباب كثيرةٌ على وجه التأكيد ولكن، هل يمكن القول إن الكسل الفكري (والعملي) يُفسِّران الظاهرة بشكلٍ كبير؟ ثمة دلائل كثيرة في الحياة اليومية للمسلمين توحي بإيثار الاعتماد الكامل على فهم الفقهاء والمفسرين من القرون السابقة حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الإسلام.. وبعيداً عن التعميم الكلي الذي لا يجوز في أي مقام، يبدو الارتخاءُ، ومعه استسهالُ التقليد منهجاً للتفكير والحياة هو الطاغيَ، حتى في أوساط من يُطلق عليهم طلبة علم أو علماء.

قد يرى البعض أن ما سيأتي في الفقرة التالية نوعٌ من المثالية، وهذا أمرٌ لا نستطيع إلا أن نترك الحُكمَ عليه للتاريخ، وللمنطق الإنساني السليم.

ففي فصلٍ بعنوان (لا تنونَّ عن طلبِ الكمال) يقول ابن الجوزي في كتابه المشهور (صيد الخاطر): «من أعمل فكره الصافي دَلَّهُ على طلب أشرف المقامات، ونهاهُ عن الرضا بالنقص في كل حال.. وقد قال أبو الطيب المتنبي: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام.. فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه.. فلو كان يُتصور للآدمي صعودُ السموات، لرأيت من أقبح النقائص رِضاهُ بالأرض.. ولو كانت النبوة تُحَصَّلُ بالاجتهاد، رأيتُ المُقصِّر في تحصيلها في حضيض»..

ولو عاش ابن الجوزي إلى اليوم لرأى كيف أن أقواماً صعدوا السموات، ووصلوا إلى القمر، ويحاولون الوصول إلى أبعد الكواكب.. لكنه سيرى أن هؤلاء ليسوا من المسلمين بالتعريف السائد، والله أعلم بما كان سيقوله في وصف حال قومه وبني دينه..

فوق هذا، يتابع الرجل حديثه عن الشخص من أصحاب الهمم فيقول: «ومن أقبح النقص التقليد، فإن قَويَت هِمّتهُ، رقتهُ إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.. ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها.. فإن القنوع حالة الأرذال.. فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا.. ولو أمكنك عبور كل أحدٍ من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل.. وما قعدَ من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها.. واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتب ولا تخلد إلى كسل، فما مات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.. وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور»..

لكن مثل هذا الكلام لن يكون مقبولاً نظرياً، ولن يؤثر على الواقع عملياً، في عصرنا الراهن، إذا ظل تقويمُ الماضي وعطاءُ السابقين فيه بهذا الشكل السائد الذي يصل إلى (التقديس) بلسان الحال، وإن لم يُذكر الآن بلسان المقال.

نقول (الآن) لأن كثيراً من العلماء والفقهاء رسّخوا هذه القاعدة تاريخياً، وبطريقةٍ أصبحت سلاحاً لمواجهة كل تجديد وتغيير.. لنأخذ مثلاً قول الذهبيّ في (تذكرة الحُفاظ): «جَزَمتُ بأنَّ المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة».. أي أن من الميؤوس منه على كل المتأخرين تقديم شيءٍ لم يُقدمهُ السابقون! وقد قال مثل هذا القول كثيرٌ من الفقهاء والمفسرين والمحدّثين المشهورين في تاريخ الإسلام.

أليس هذا أقربَ للحكم بالإعدام الحضاري على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين؟ ألا يُعبّرُ مثل هذا الرأي عن عملية انسحابٍ كامل من الحاضر والمستقبل؟ ألا يُمثل استقالةً جماعيةً من التاريخ بأسره، كُتبت باسم المسلمين منذ أكثر من ألف عامٍ، وستبقى كذلك إلى يوم الدين؟ أسئلةٌ بحاجةٍ لإجابات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store