Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٩)

A A
كيف يؤثر الفكر التقليدي وأحكامُهُ على الواقع المعاصر؟ هذا سؤالٌ يجب البحثُ فيه بشكلٍ عميق لأن الإجابة عليه في غاية الخطورة.

لنضرب أمثلةً هنا مما ذَكَرهُ الشيخ الراحل محمد الغزالي في كتابه عن السنة النبوية قائلاً: «قرأتُ خمسين حديثاً تُرغِّبُ في الفقر وقلّة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمُستضعفين وحُبِّهم ومُجالستهم، كما قرأتُ سبعة وسبعين حديثاً تُرغِّبُ في الزهد في الدنيا والاكتفاء منها بالقليل وتُرهِّبُ من حبها والتكاثر فيها والتنافس.. وقرأتُ سبعةً وسبعين حديثاً في عيشة السلف وكيف كانت كِفافاً.. ذكر ذلك كله المنذري في كتاب الترغيب والترهيب.. رحم الله المؤلف.. فهو حسنُ النية.. بيد أن الفقه الصحيح يقتضي منهجاً آخر ومسلكاً أرشد».

وبعد أن أوضح الغزالي كيف أن عبادة الدنيا أهلكت الأولين والآخرين.. قال إن «العلاج الصحيح للداء العضال يكون بالتمكن من الدنيا والاستكبار على دناياها». «املك أكثر مما ملك قارون من المال» تابعَ الفقيه المرحوم، ثم أكملَ قائلاً: «سيطر على أوسع مما بلغه سليمان من سُلُطات، واجعل ذلك في يدك، لتدعم به الحق حين يحتاج الحق إلى دعم، وتتركه لله في ساعة فداء حين تحين المنيّة. أما أن تعيش صعلوكاً، حاسباً أن الصعلكة طريق الجنة فهذا جنونٌ وفتون. إذا كان الإلحاد يفرض سلطانه بالتمكين في الأرض، فإن انصرافك عن التمكن من الأرض فاحشةٌ أشدُّ من الزنا والربا..».

هذا ما كنا نقصده عندما ذكرنا أن سيطرة التقليد، ومنهجه وفكره وأحكامه وفتاويه، هي أقربُ للحكم بالإعدام الحضاري على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين.. وأنه يُعبّرُ عن عملية انسحابٍ كامل من الحاضر والمستقبل، ويمثلُ استقالةً جماعيةً من التاريخ بأسره، كُتبت باسم المسلمين منذ أكثر من ألف عامٍ، وستبقى كذلك إلى يوم الدين.

والانتقائية السلبية من تراث الإسلام بدعوى الصلاح والزهد والتقوى والتواضع وتجنب الفتن، كلها تدعو إلى تشكيل واقعٍ مهزومٍ ومأزوم على مستوى الأفراد والجماعات.

لهذا، فيما نحسب، قال محمد الغزالي: «إن سعة الفقه لابد منها لفهم مرويات شتى! وقد وقفَ الحَرفيون عند هذه الآثار فوقفوا بالعالم الإسلامي كما وقف حمارُ الشيخ في العقبة لا يتقدم ولا يتأخر! بل لعله تراجع إلى العصر الحجري في بعض جوانبه».

ثمة سيفٌ يُشهر دائماً عند الحديث عن ضرورة مراجعة الحديث النبوي. يجري هذا، في معظم الأحيان، على شكل رد فعلٍ أعمى، وباسم الذود عن الرسول وأحاديثه. ويغفل هؤلاء عن نظرةٍ شموليةٍ لابد من الإحاطة بها في هذا المقام الحساس، كما يشرحها الغزالي بقوله: «إن رُكاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، ورُكاماً من الأحاديث التي صحَّت، وسَطَا التحريفُ على معناها، أو لابَسَها، كلُّ ذلك جعلَها تنبو عن دلالاتها القريبة والبعيدة.. وقد كنتُ أزجرُ بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح حتى يكشفوا الوهمَ عن معناه إذا كان المعنى مُوهِماً، مثل حديث (لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله..) [ذلك] إن طوائف من البطّالين والفاشلين وقفت عند ظاهرهِ المرفوض، وحسبوا أن الجنة تُدخل دون عمل، وتناسوا عامدين عشرات الآيات التي تجعل دخول الجنة نتيجة عملٍ واجب».

هذا مثالٌ من مجالٍ واحد أثَّرَت وتؤثر فيه الانتقائية السلبية من التراث الإسلامي في حاضر المسلمين بشكلٍ خطير، وثمة مجالاتٌ لا حصر لها يتكرر الأمر فيها، تزيد واقع المسلمين اهتراءً، وتُعيق أي طريقٍ مشرقٍ لمستقبلهم. سواء تعلق الأمر بقيمة المرأة ودورها، أو بالموقف من العقل والعلم والتجربة البشرية، أو الموقف من الآخر غير المسلم، أو من الأوهام والخرافات (العلمية) و(الطبية) المتعلقة بمسّ الجن والاستشفاء ببول البعير وغيرها من المسائل التي تثير الاستياء والقرف، والإحساس بأن أصحابها يسيئون للإسلام أكثر من إساءة أكبر أعدائه إليه.

أين الحل إذاً؟ نعرض ملامحه في الجزء الأخير القادم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store