Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (١٠)

A A
لا يمكن لأي ثقافة أن تتصالحَ مع الحياة ما لم تتصالح أولاً مع قيم ومعاني التجديد والإبداع والابتكار.. على كل مستوىً وفي كل مجال.. لا مكان في هذا العالم لمن يتعامل معه بعقلية الخوف من كل جديد، والحذر من كل طارئ، والرهبة من كل مختلف.. فالتغييرُ سِمةُ الحياة البشرية الكبرى، وبغيابهِ يفقد الوجود الإنساني أكبر معانيه وأسبابه.. من هنا، فالثقافة التي لا تعرف كيف تتعامل مع التغيير تصبح سريعاً ثقافة ركودٍ وتقليدٍ وانعزال.. ثقافةً لا تصلح إلا للبقاء على هوامش الحياة في أحسن الأحوال.

لماذا يستمر التقليد إذاً، خاصةً حين يتعلق الأمر بالإسلام، منهجاً للتفكير والحياة، في غالبية المجتمعات والتجمعات الإسلامية في عالم اليوم؟

قد يستمر التقليد بسبب ندرة مصادر المعرفة في زمنٍ سابق، أما في مثل هذا العصر فإن مجرد الإشارة إلى مثل هذه المقولة سيكون مُعيباً، قبلَ أن يكونَ جَهلاً كلياً بطبيعة زمنٍ نعرف أن وُفرة مصادرِ المعرفة باتت مِيزَتَهُ الأكبر.. ليس الأمر كما كان مثلاً منذ أكثر من سبعة قرون.

رغم هذا، لا تتمالك نفسك وأنت تقرأ ما كتبه أبو شامة الشافعي، المتوفي سنة ٦٦٥ للهجرة، قائلاً: «..فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة إذا رُزق الإنسان الحفظ ومعرفة اللسان أسهلُ من قبل ذلك لولا قِلّةِ هِممِ المُتأخّرين وعدم المعتبرين.. ومن أكبر أسباب تعصبهم تقيدهم برفق الوقوف وجمود أكثر المتصدرين منهم على ما هو المعروف، الذي هو مُنكرٌ مألوف»!؟

لا تكفي كل علامات الاستفهام والتعجب في الدنيا لتفي هذه المفارقة حقَّها.. نحن نقرأ كلام رجلٍ عاش حياته منذ أكثر من ثمانية قرون.. لكنه نظر في أحوال الدنيا في ذلك الزمن، ورأى كيف انقضت ستة قرون على بعثة الرسول وانطلاق الرسالة، ووجد أن هناك من حاولوا الاجتهاد على مدى تلك القرون بما لديهم من وسائل وأدوات.. لكنه أيضاً وجدَ نفسه في عصرٍ تمَّ فيه (جمعُ السنن في الكتب المُعتمدة)، فنظر إلى هذا التطور على أنه ثروةٌ يمكن أن تُحدث ثورةً في عملية الاجتهاد، فقط إذا وُجِدت الهمة لدى أبناء عصره.

ماذا نقول نحن إذاً، ونحن نعيش عصر ثورة المعلومات بكل ما في الكلمة من معنىً، ولدينا وسائل وأدوات تُيسِّرُ عملية الاجتهاد بشكلٍ لا يكاد يصدقه عقل؟ تعجز الكلمات عن التعبير في هذا المقام.. ثم إن كثيرين قد يخرجون علينا بدعوى (إجماع الأمة) على مسائل لا تُحصى باتت تحتاج لاجتهادٍ وإعادة نظر. ولا يُصدّقُ المرء أن هذه الدعوى لازالت تُرفع سيفاً فاعلاً في وجه الداعين للاجتهاد، وأنها تُقنع مئات الملايين من المسلمين الذين يرتضون العيش على هامش الحياة والتاريخ في هذا العصر، فقط لاعتقادهم بأن المقولة المذكورة صحيحة. أين يذهب هؤلاء من مقولة الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثاني للهجرة: «من ادَّعى الإجماعَ فقد كَذَبْ، وما يُدريه لعلَّ الناس اختلفوا وهو لا يدري»!!

استنتج الرجل تلك القاعدة المنطقية بشيءٍ من التفكير السليم، في عصرٍ كان انتقالُ البشر والمعلومات فيه صعباً للغاية، بحيث كان يستحيل عملياً القبول بأن هناك إجماعاً.. بالمقابل، نعيش اليوم في عصرٍ تتوفرُ فيه كل كتب ومقولات وفتاوى وآراء ومدونات الفقهاء والمفسرين والمحدّثين على مدى القرون لكل طالب علمٍ بغاية السهولة.. وبحيث باتَ من الممكن جداً القول بأنه لم يوجد تاريخياً إجماعٌ على مسألةٍ من المسائل في الإسلام، فيما عدا قضايا تُعدُّ على أصابع اليدين تتعلق ببعض المعتقدات والشعائر.

آن الأوان لإعلانها بقوةٍ وصراحة: الحديثُ حول (الإجماع)، خارج تلك الدائرة الضيقة جداً، وهمٌ كبيرٌ قاتلٌ لحاضر المسلمين ومستقبلهم.. وإذ يُظهرُ الواقع أن ثمة أفراداً منهم هنا وهناك لم تعدْ ترضى بهذا الحال، فإن خطورة الواقع تفرض ظهور المزيد من هؤلاء أفراداً ومؤسسات.

كفى انتقائيةً لكل ما هو سلبي في تراث المسلمين لترسيخ منهج التقليد.. كفى تخويفاً بالإجماع.. كفى هروباً من الواجب بدعوى صعوبة الحصول على مصادر العلم بكل ما له علاقةٌ بالإسلام وتاريخه.. وكفى، أولاً وآخراً، تقديساً للماضي ورجالاته من البشر، ومعهم فتاواهم المتعلقة بعصرهم وهمومهم وتحدياتهم.

لقد قالها العلماء المنصفون عبر التاريخ وآن الأوان لأن يسمعها المسلمون ويفقهوها.. قالها الإمام المالكي ابن عبدالبر، في الأندلس، منذ ألف عام: «ليس من شيءٍ أضرَّ على العلم من قولهم: ما ترك الأولُ للآخِر، بل الصوابُ عندنا: كم تركَ الأول للآخر».. ونادى بها ابن مالك، مؤلفُ الألفية، من دمشق، منذ ثمانية قرون: «وإذا كانت العلومُ مِنَحاً إلهيةً ومواهبَ اختصاصية، فغيرُ مُستبعدٍ أن يُدَّخرَ لبعض المتأخرين ما أعسرَ على كثيرٍ من المتقدمين، نعوذ بالله من حَسدٍ يسدُّ باب الإنصاف ويصدُّ عن جميل الأوصاف».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store