Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

من نيوزيلندا إلى شيكاغو: استعادة القيم لمعالجة هشاشة العالم (١)

A A
لا تشعر بهشاشة العالم الذي تعيش فيه كما تشعر عندما تسمع بحدثٍ مثل ذلك المتعلق بالهجوم الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا منذ يومين.

فرغم وجود الملايين من رجال الأمن والشرطة والاستخبارات في هذا العالم، ورغم كل التطور التكنولوجي في أدوات المراقبة والمتابعة والتنصت والتجسس على مَن يُحتملُ أن يكونوا إرهابيين، ورغم كل قوانين الضبط والربط والرصد في كل مكان، يظهر شخصٌ واحد اسمه (برينتون تارانت)، مجهولٌ مغمورٌ لايعرفه في الدنيا سوى أهله وأصدقائه، يظهر في أكثر بقاع الأرض أمناً في العالم، لينفذ ويبث للعالم بشكلٍ مباشر، وبدمٍ بارد، وعلى مدى قرابة ساعة، واحداً من أكثر السيناريوهات بشاعةً في العالم.

هذا الشاب الإرهابي الأسترالي العنصري المسيحي الديانة مجنونٌ بمقياسٍ من المقاييس. وثمة مجانين أُخَرُ كثيرون مثله لهم نفس انتماءاته المذكورة. لكننا نعرف، كمسلمين، أن لدينا مجانين يفكرون بنفس الطريقة، وقد يكون لدى بعضهم الآن استعدادٌ وتخطيطٌ للانتقام بطريقة تكون أبشع. وقد يحصل هذا خلال أسبوعٍ أو شهرٍ أو سنة. رغماً عن ملايين رجال الأمن وأدواتهم التكنولوجية والقوانين التي يُفترض بها مساعدتهم لأداء مهمتهم.

لا ندري ما معنى (الهشاشة) إذا لم يكن ماجرى ويجري، ويمكن أن يجري، مؤشراً على هشاشة هذا العالم بدرجةٍ فظيعة.

وتلك هشاشةٌ لم تعد تنفع معها زيادة أعداد رجال الأمن، ولا تطوير أدواتهم التكنولوجية، ولا تشديد القوانين التي يستعينون بها.

لا بأس بالعمل على تلك المحاور. لكن هذا وحده لن يجعل العالم أقل هشاشة. وَحدَها، عمليةُ استعادة القيم في المجتمعات البشرية يمكن أن تنقذها من طوفان الإرهاب الذي لايميز بين شعبٍ وآخر ودينٍ وآخر.

قد يبدو مثلُ هذا الحديث عن قيمة (القيم) في الظرف الراهن نوعاً من المثالية للكثيرين. لكن هذا التفكير، بحد ذاته، جزءٌ من المشكلة.

في شيكاغو، حيث أتواجد الآن، دفعني الفضول الإنساني والإعلامي، لرصد مشهد ردود الأفعال على الحدث المذكور من جانبيه: داخل الجالية الإسلامية، وخارجها.

من الداخل، أجمعت خطب الجمعة في المساجد، وأكثرها تقليديٌ في الجُمع الأخرى.. على معاني المشترك الإنساني في السراء والضراء. نعم، أدان الخطباء الإسلاموفوبيا وكل من ينشر ثقافتها، لكنهم أكدوا للناس أن قوتهم الحقيقية لا تكمن في (الانتقام)، وإنما في العمل على جبهتين: ترسيخ الوجود الإسلامي بالوعي والمأسسة، وتكثيف الاندماج في المجتمع الأمريكي ومؤسساته. لم يقف الأمر عند الكلام في الموضوع، بل تجاوزه إلى الترتيب لاجتماعٍ ضخم على مستوى مدينة شيكاغو يجمع المسلمين بغير المسلمين لتأكيد الوحدة الاجتماعية وقيمها الإيجابية المشتركة.

أما من الخارج، فقد تعددت الظواهر أيضاً. فمنذ الصباح الباكر، تبين أن عشرات المساجد والمراكز الإسلامية تلقت اتصالات هاتفية ورسائل بريد إلكتروني من الكنائس والمعابد اليهودية والهندوسية والبوذية المجاورة لها، ومن شخصيات سياسية رسمية، وأفراد عاديين، كلها تبدأ بإدانة الحدث، ثم تنتقل للتعزية والمواساة، والسؤال عن إمكانية المساعدة. وأمنياً، كانت قوةٌ من الشرطة تحرسُ كل مسجدٍ صغيرٍ أو كبير في منطقة شيكاغو أثناء صلاة الجمعة. ثم إن كثيراً من المساجد تلقت باقاتٍ من الزهور باسم تجمعات السكان الأمريكيين القريبة منها، كان من اللافت للنظر أن من أوصلَها باليد هم رجالٌ ونساءٌ بيض، رأيتُ بنفسي امرأةً منهن في الخمسينيات من العمر تذرف الدموع وهي تقدم الباقة لإمام المسجد.

ثمة شرٌ كثيرٌ في هذا العالم. لكن استعادة القيم وترسيخها في مجتمعاته سيكون السلاح الأكثر نجاعةً لمحاربته. ونستخدم مصطلح (استعادة) عن قصد، لأن الأمر يتطلب جهداً إرادياً واعياً وكبيراً، ولا يمكن أن يحصل عفوياً.

حدثني الإمام المذكور أعلاه أن مسجده كان بصدد شراء بناءٍ أكبر للانتقال إليه. لكن المجلس المحلي للمدينة لم يوافق على إعطائهم الموافقة لأسباب تجارية بحتة. فقد كان البناء تجارياً يوفر ربع مليون دولار من الضرائب سنوياً للبلدية. أما استبداله بمسجد فسيعني ضياع المبلغ لأن دُور العبادة مُعفاةٌ من الضرائب!..

حاول أعضاء الجالية لأشهر القيام بعمليات (لوبي) سياسية مع المجلس وأعضائه لكن الأمر لم يتغير. بعدها، ذهب وفدٌ من المسجد لزيارة الكنائس والمعابد الموجودة في المنطقة لإبلاغهم بما يجري والسؤال، مجرد السؤال، عن نصيحةٍ للتعامل مع الموضوع. لم يحصل الوفد على النصيحة. ولكن، في الاجتماع التالي للاستماع إلى القضية امتلأت القاعة، جلوساً ووقوفاً، ببضع مئات من غير المسلمين، وممن ينتمون للكنائس والمعابد المذكورة أعلاه، مع قياداتها في المقدمة، وطالب الجميع المجلس بالموافقة على رخصة البناء للمسلمين، الأمر الذي حصل خلال دقائق في تلك الجلسة.

واليوم. تشهد تلك المنطقة أمناً ورخاءً اقتصادياً، يؤكد أن مجتمعها بات أقل هشاشةً بكثير من مناطق أخرى لم تشهد مثل هذا الحراك.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store